بهاء الصدري
11-03-2011, 01:32 PM
إشراقة من حياة الإمام الخامس من أئمة أهل البيت عليهم السلام، أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام.
فهو عليه السلام مجمع الفضائل، ومنتهى المكارم، سبق الدنيا بعلمه، وامتلأت الكتب بحديثه، ولا غرور في أن يكون كذلك بعد ما سماه رسول لله صلى الله عليه وآله بالباقر - كما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري(عليه رضوان الله تعالى) - لأنه يبقر العلم بقراً، أي يفجره وينشره، فلم يرو عن أحد من أئمة أهل البيت بعد الإمام الصادق، ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام، فها هي كتب الفقه، والحديث، والتفسير، والأخلاق، مستفيضة بأحاديثه، مملوءة بآرائه، فقد روى عنه رجل واحد من أصحابه - محمد بن مسلم - ثلاثين ألف حديث، وجابر الجعفي سبعين ألف حديث، وليست هذه بميزة له عليه السلام على بقية الأئمة، فعقيدتنا أنهم صلوات الله عليهم متساوون في العلم، سواسية في الفضل، فهم يغترفون من منهل واحد: كتاب الله وسنة رسوله، وما أودع الله تعالى فيهم من العلم اللدني بصفتهم أئمة الحق، وساسة الخلق، وورثة الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم.
نعم الظروف التي مرت على الإمام الباقر عليه السلام كانت مواتية، فقد كانت الدولة الأموية الملعونة في نهايتها واهية البنيان، منهدّة الأركان، فاستغل عليه السلام الفرصة ونشر ما أمكنه نشره من العلوم والمعارف، كما استغل ولده الإمام الصادق عليه السلام بعده انشغال الدولتين الملعونتين - الأموية والعباسية - عنه فأتم ما كان أبوه الباقر عليه السلام قد أسسه، ولو قٌـدّر للإمام الجواد عليه السلام - مثلاً - أن يحصل على ظرف كظرف الصادقين عليهما السلام فما كان ليقصر عن ذلك، فهو الذي أجاب في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة.. وهكذا بقيتهم عليهم الصلاة والسلام.
وهناك شئ آخر يجب أن نفهمه هو أن العلم جانباً واحداً من حياة الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، فهو صلوات الله عليه أكثر الناس عبادة، وأعظمهم زهادة وأجمعهم لمكارم الأخلاق، وأحسن الناس سيرة، وأفضلهم سريرة.
وهذه صورة مصغرة عن حياة هذا الإمام العظيم وابن الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم وحفيد الامام الحسين الشهيد عليه السلام ، وما أحوجنا اليوم - ونحن نتطلع إلى غدٍ أفضل - أن نأخذ من حياته عليه السلام الدروس، وأن نستلهم من سيرته المثل الرفيعة، لنحقق أمانينا في الإصلاح، ونعيد مجدنا الغابر { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ...
مولده
ولد الامام الباقر عليه السلام في يوم الجمعة أو الثلاثاء من غرة رجب، وقيل الثالث من صفر سنة سبع وخمسين من الهجرة، وكان عليه السلام يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله، لذا لقب بالشبيه، كان ربع القامة، رقسق (دقيق) البشرة ، جعد الشعر ، ، له خال على خده، وخال أحمر على جسده، ضامر الكشح، حسن الصوت، مطرق الرأس.
عمره
أقام مع جده الامام الحسين عليه السلام ثلاث سنين أو أربع سنين ومع أبيه الامام علي بن الحسين عليه السلام أربعا و ثلاثين سنة وعشرة أشهر أو تسعا وثلاثين سنة وبعد أبيه تسع عشرة سنة وقيل ثماني عشرة وذلك في أيام إمامته.
استشهاده
استشهد عليه السلام في المدينة في يوم الإثنين من ذي الحجة وقيل في شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة ومائة ، وله يومئذ سبع وخمسون سنة مثل عمر أبيه وجده عليهم السلام ، دفن في البقيع مع أبيه الإمام زين العابدين وعمه الحسن السبط عليهما السلام ،و في الثامن من شوال سنة 1344هـ، هدم الوهابيون النواصب قبره، وقبور بقية الأئمة عليهم السلام والاولياء والصالحين والصحابة وغيرهم.
وقال الامام الصادق عليه السلام: كتب هشام بن عبد الملك لعنه الله الى عامل مدين يأمره بأن يأخذ أبي الباقر عليه السلام فيقتله وكتب الى عامل المدينة أن يحتال في سم أبى في طعام او شراب وصنع ما صنع حتى سم إمامنا الباقر عليه السلام ووقع في فراشه متورم الجسد ومرض من ذلك مرضا شديداً وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام.
إمامته وملوك عصره
وكان عليه السلام في سنين إمامته (19) سنة، ملك الوليد بن عبد الملك، يزيد بن عبد الملك، سليمان بن عبد الملك، عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك أخوه ، والوليد بن يزيد وإبراهيم أخوه.
نقش خاتمه
(العزة لله جميعاً) .
من سيرته واخلاقه
لو أخذ المسلمون سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام للعمل والتطبيق لحصلوا على أعظم مكسب في حقل التوجيه والأخلاق، ولسادوا الأمم ولامتدوا بالإسلام في أرجاء المعمورة، ولحققوا أعظم إنتصار في الحقل الداخلي والخارجي. فالبشرية لم تعهد بقادتها وموجهيها وعلمائها ومفكريها على مر العصور والأجيال بمثل هذه السير الغراء، وعسى أن يعي المسلمون للطريق فيأخذوا من هذا المعين الصافي، والمنبع العذب.
- كان عليه السلام إذا رأى مبتلى أخفى الإستعاذة.
- قال الإمام الصادق عليه السلام: كان أبي عليه السلام أقل أهل بيته مالاً، وأعظمهم مؤونة ، وكان يتصدق كل جمعة بدينار، وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل الجمعة على غيره من الأيام.
اما اخلاقه فكان قد قطن المدينة رجل من أهل الشام وهو يتردد كثيراً على بيت الإمام (عليه السلام) ويقول له:ليس على وجه الارض أبغض إليّ منك، ولا أشعر بعدواة مع أحد أشدّ من العداوة التي اشعر بها لك ولأهل بيتك! واعتقد ان الطاعة لله وللنبي ولأمير المؤمنين لا تتم الا بالعداء لك، واذا كنت تراني اتردد على بيتك فذلك لانك خطيب وأديب وذو بيان رائع! .
ومع هذا كله كان الإمام (عليه السلام) يعطف عليه ويحدثه بلين ورفق، ومرت الايام وابتلي الشامي بالمرض بحيث واجه الموت ويئس من الحياة فأوصى ان يصلي عليه أبو جعفر ( الإمام الباقر (عليه السلام) ) بعد موته.
وفي منتصف إحدى الليالي لاحظ أهل الرجل انه قد قضى نحبه، فغدا وصيه الى المسجد صباحاً ورأى الإمام الباقر (عليه السلام) قد فرغ من صلاته وجلس للتعقيب ، وكانت تلك عادته، فقال الوصي للإمام: ان ذلك الرجل الشامي قد أسرع للقاء ربه وأوصى ان تقيم الصلاة عليه انت.
فقال الإمام (عليه السلام) : (إنّه لم يمت … لا تتسرعوا وانتظروني حتى اجيء)..
ثم نهض فجدد وضوءه وصلى ركعتين ورفع يديه بالدعاء ثم سجد واستمر في سجوده حتى أشرقت الشمس، وعندئذ جاء الى بيت الشامي وجلس عند رأسه وناداه فأجاب، ثم أجلسه الإمام (عليه السلام) وأسند ظهره الى الحائط وطلب له شرابا فسقاه إياه وقال لأهله: ناولوه طعاماً بارداً، ثم عاد ادراجه.
ولم يمض وقت طويل حتى استعاد الشامي صحته فجاء الى الإمام (عليه السلام) قائلا: اشهد انك حجة الله على الناس .
ويقول محمد بن المنكدر ـ وهو من صوفيي ذلك العصر ـ خرجت من المدينة في يوم شديد الحرارة فرأيت أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) عائداً الى مزرعته من زيارة تفقديّة ـ ويرافقه اثنان من غلمانه أو أصحابه ـ فقلت في نفسي : ( رجل من كبار قريش وهو في طلب الدنيا في مثل هذا الوقت! لابد لي ان اعظه( .
فدنوت منه وسلمت عليه فردّ الإمام السلام علي بشدة والعرق يتصبب من رأسه ووجهه، فقلت له: سلمّك الله أرجل من مثلك يسعى وراء الدنيا في هذا الوقت! ما هو موقفك لو عاجلك الاجل وآنت على هذه الحال؟ فأجابني: (والله لو وافاني الأجل وأنا في هذه الحال لكنت في طاعة الله، لانني بهذه الطريقة اغني نفسي عنك وعن سائر الناس، واني لأخشى ان يغتالني الاجل وانا متورط في معصية(.
قلت: رحمك الله ظننت انني سوف اعظك لكنك انت الذي وعظتني وايقظتني .
من وصاياه
من أنفس ما تركه الأئمة عليهم السلام للمسلمين هو وصاياهم القيمة الكثيرة، الحافلة بالتوجيه والأخلاق والحكم والمعارف والأدب، فلم يعرف التاريخ الإسلامي مثل هذه الوصايا لمن سبقهم أو تأخر عنهم من العلماء والحكماء والفلاسفة والمفكرين، وما ذلك إلاّ لحرصهم على توجيه المجتمع، وإصلاح الأمة، وبث الأخلاق بين الناس، وليس هذا بكثير عليهم، فهم يعتبرون أنفسهم - فهم المكلفون بعد الرسول صلى الله عليه واله وسلم بنشر الإسلام، والمحافظة على السنن والشرائع المحمدية.
من وصية له عليه السلام لعمر بن العزيز: دخل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام على عمر بن العزيز فقال بن عبد العزيز: يا أبا جعفر أوصني، فقال عليه السلام أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولداً، وأوسطهم أخاً، وكبيرهم أباً، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبر أباك، وإذا صنعت معروفاً فربه (أدمه).
من حكمه
قال عليه السلام: ثلاثة من مكارم الدنيا والآخرة: أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جُهل عليك.
وقال عليه السلام: أشد الأعمال ثلاثة: مواساة الإخوان في المال، وإنصاف الناس من نفسك، وذكر الله عز وجل.
وقال عليه السلام: عالم ينتفع بعلمه أفضل من ألف عابد.
وقال عليه السلام: بأس العبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أعطي حسده، وإن ابتلي خذله.
بعض من كراماته ومعاجزه
• حدّث إبراهيم بن سعد قال: حدّثنا حكم بن سعد قال:
لقيتُ أبا جعفر محمّدَ بن عليٍّ الباقر عليه السّلام وبيده عصاً يضرب بها الصخر فينبع منه الماء. فقلت: يا ابن رسول الله، ما هذا ؟! قال: نبعةٌ مِن عصا موسى التي يتعجّبون منها. ( دلائل الإمامة لمحمّد بن جرير الطبريّ الإماميّ 96 ـ) وعنه: إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للشيخ الحرّ العامليّ 64:3 / ح 82، بإسناده عن حكيم ابن أسد. وجاء في كتاب الغرفة للسيّد محمّد علي الشاه عبدالعظيميّ 41، وعلى الصفحة 130 روى عن حكم أنّه قال: لقيتُ الباقر عليه السّلام وبيده عصاً، يضرب الصخر فينبع منه الماء ).
وحدّث أبو المفضّل محمّد بن عبدالله قال: حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد ابن عقدة، عن يحيى بن زكريّا، عن الحسن بن محبوب الزرّاد، عن محمّد بن سنان، عن المفضَّل بن عمر الجعفيّ، عن جابر بن يزيد الجُعفيّ قال:
مررتُ بعبد الله الحسن، فلمّا رآني سبّني وذكر الباقر عليه السّلام ( أي بسوء )، فجئتُ إلى أبي جعفر عليه السّلام، فلمّا أبصر بي تبسّم وقال: يا جابر، مررتَ بعبدالله بن حسن فسبّك وسبّني ؟! قلت: نعم يا سيّدي، ودعوتُ الله عليه. فقال لي: أوّل داخلٍ يدخل عليك هو.
فإذا هو قد دخل! فلمّا جلس قال له الباقر عليه السّلام: ما جاء بك يا عبدالله ؟! قال: أنت الذي تدّعي ما تدّعي! قال له الباقر عليه السّلام: ويلَك قد أكثرت! ثمّ قال: يا جابر، قلت: لبّيك، قال: احفرْ في الدار حَفيرة.
قال جابر: فحفرت. فقال لي ائْتِني بحطبٍ كثيرٍ وألْقهِ فيها. ففعلت، ثمّ قال: أضْرِمْه ناراً. ففعلت، ثمّ قال: يا عبدَالله بن حسن! قُمْ وادخلْها واخرجْ منها إن كنتَ صادقاً! قال عبدالله: قمْ فادخلْ أنت قَبْلي.
فقام أبو جعفر عليه السّلام ودخَلَها.. فلم يزل يدوسها برِجْله ويدور فيها حتّى جعلها رماداً، ثمّ خرج فجاءٍ وجلس، وجعل يمسح العرقَ عن وجهه، ثمّ قال: قُمْ قبّحك الله! فما أقربَ ما يحلّ بك كما حلّ بمروان بن الحكم وبولده!( دلائل الإمامة للطبريّ الإماميّ 109 ـ وعنه: إثبات الهداة للحرّ العاملي 64:3 ـ 65 / ح 87. وروى قريباً من ذلك:
وعن المفضَّل بن عمر قال: بينما أبو جعفر ( الباقر ) صلوات الله عليه سائرٌ مِن مكّة إلى المدينة.. إذ انتهى إلى جماعةٍ على الطريق، فإذا رجلٌ منهم قد نفق حمارُه ( أي مات )، وتبدّد متاعه، وهو يبكي. فلمّا رأى أبا جعفرٍ عليه السّلام أقبل إليه وقال له:
ـ يا ابن رسول الله، نفقَ حماري وبقيتُ منقطعاً، فادعُ اللهَ أن يُحييَ لي حماري.
فدعا أبو جعفر عليه السّلام.. فأحيا اللهُ تعالى له حمارَه. وفيه: قال جابر الجعفيّ: فحرّك أبو جعفر عليه السّلام شفتَيه بما لم يسمعه أحد منهم، فإذا بالحمار وقد انتفض، فأخذه صاحبه وحمل عليه رَحْلَه.. وسار معنا حتّى دخل مكّة. وعن أحمد بن إسحاق قال: حدّثنا عبدالله بن عبدالرحمان بن أبي نجران، عن أبي محمّد الثماليّ، عن إسحاق الجريريّ قال:
قال الباقر عليه السّلام: يا جريري، أرى لونك قد فقع، أبِكَ بواسير ؟!
قلت: نعم يا ابن رسول الله، وأسأل اللهَ عزّوجلّ ألاّ يحرمني الأجر.
قال: فأصِفُ لك دواءً ؟
قلت: يا ابن رسول الله، لقد عالجتُه بألف وأكثر من دواء.. فما انتفعت بشيءٍ من ذلك، وإنّ بواسيري تشخب دماً!
قال: وَيْحك يا جريريّ، فأنا طبيبُ الأطبّاء، ورأس العلماء، ورأس الحكماء، ومَعدِن الفقهاء، وسيّدُ أولادِ الأنبياء على وجه الأرض.
قلت: كذلك يا سيّدي ومولاي.
قال: إنّ بواسيرك أُناث تشخب دماً.
قلت: صدقتَ يا ابن رسول الله.
فذكرني على الدواء واستعملته.. فوَالله الذي لا إله إلاّ هو، ما فعلته إلاّ مَرّةً واحدةً حتّى برئ ما كان بي، فما أحسستُ بعد ذلك بدمٍ ولا وجع. فعُدتُ إليه مِن قابل، فقال لي: يا إسحاق قد بَرِئتَ والحمد لله. وعن محمّد بن مسلم قال: خرجتُ إلى المدينة وأنا وَجِع، فقيل له ( أي للإمام الباقر عليه السّلام ): محمّد بن مسلم وَجِع. فأرسل إليّ أبو جعفر عليه السّلام إناءً مع غلام، مغطّى بمنديل، فناولنيه الغلام وقال لي: اشربْه؛ فإنّه أمرَني ألاّ أبرحَ حتّى تشربه.
فتناولته.. فإذا رائحة المِسْك منه، وإذا شراب طيّبُ الطعم بارد، فلمّا شربتُه قال لي الغلام: يقول لك مولاي: إذا شربتَه فتعال. ففكّرت فيما قال لي وما أقدر على النهوض قبل ذلك على رِجْلي، فلمّا استقرّ الشراب في جوفي، فكأنّما أُنشِطتُ مِن عِقال، فأتيتُ بابه فاستأذنتُ عليه فصوّت بي: صحّ الجسم، أُدخُلْ. فدخلتُ عليه وأنا باكٍ، فسلّمت عليه وقبّلت يده ورأسه، فقال لي: وما يُبكيك يا محمّد ؟ فقلت: جُعلت فداك، أبكي على اغترابي وبُعد شقّتي وقلّة القدرة على المُقام عندك أنظر إليك. فقال لي: أمّا قلّة القدرة فكذلك جعل اللهُ أولياءَنا وأهلَ مودّتنا، وجعل البلاء إليهم سريعاً. وأمّا ما ذكرتَ من الغُربة.. فإنّ المؤمن في هذه الدنيا لغريب، وفي هذا الخلق منكوس حتّى يخرجَ مِن هذه الدار إلى رحمة الله. وأمّا ما ذكرتَ مِن بُعد الشُّقّة، فلَك بأبي عبدالله عليه السّلام ( أي الإمام الحسين سلام الله عليه ) أُسوة، بأرضٍ نائية عنّا بالفرات. وأمّا ما ذكرتَ مِن حُبِّك قُربَنا والنظرَ إلينا، وأنّك لا تقدر على ذلك، واللهُ يعلم ما في قلبك وجزاؤك عليه.
شعراءه:
(كثير عزة، الكميت، الورد الأسدي - أخو الكميت - السيد الحميري.)
بوابه:
(جابر الجعفي)
ألقابه
أما كنيته أبو جعفر لاغير، ولقبه الباقر، باقر العلم ،الشاكر لله ،الهادي ،الأمين ،الحاضر، الذاكر ،الخاشع، الصابر ،معدن العلم ،العلم الظاهر ،الشبيه لأنه كان يشبه رسول الله صلى الله عليه واله ، كما أخبر النبيصلى الله عليه واله وسلم جابر بن عبدالله الأنصاري: يا جابر ستدرك رجلاً من أهل بيتي إسمه أسمى وشمائله شمائلي يبقر العلم بقراً.
أصحابه
واما أصحابه فهم كثيرون واجتمعت العصابة أن أفقه أصحابه الأولين ستة وهم زرارة بن أعين ومعروف بن الخربوذ المكي وأبو بصير الأسدي والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم الطائفي وبريد بن معاوية العجلي. ومن أصحابه حمران بن أعين الشيباني وإخوته بكر وعبدالملك وعبدالرحمن ومحمد بن اسماعيل بن بزيع وعبدالله بن ميمون القداح ومحمد بن مروان الكوفي من ولد أبي الأسود واسماعيل بن المفضل الهاشمي من ولد نوفل بن الحارث وأبو هارون المكفوف وطريف بن ناصح بياع الأكفان وسعيد بن طريف الأسكاف الدؤلي واسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي وعقبة بن بشير الأسدي وأسلم المكي مولى ابن الحنفية وأبو بصير ليث بن البختري المرادي والكميت بن زيد الأسدي وناجية بن عمارة الصيداوي ومعاذ بن مسلم الهراء النحوي وكثير من الرجال.
أبوه
وأما أبوه عليه السلام فهو سيد الساجدين وذو الثفنات وخير العابدين وزين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام. جده الإمام الحسين الشهيد عليه السلام.
أمه
أما أمه عليه السلام فهي فاطمة أم عبدالله بنت الإمام الحسن عليه السلام، فهو عليه السلام هاشمي من هاشميين، وعلوي من علويين، وفاطمي من فاطميين، وأول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين عليهما السلام، ويقال أمه أم عبده بنت الحسن بن علي عليهم السلام. والأولى أصح وكانت من خيرات النساء وقال عنها الصادق عليه السلام صديقة لم يدرك مثلها في آل الحسن عليه السلام ولها كرامات قيل أنها كانت قاعدة عند جدار فتصدع الجدار وسمعت منه هدة شديدة فوضعت يدها تحت الجدار وقالت لا وحق المصطفى ما أذن الله لك في السقوط علي فبقي معلقاً حتى جزأته فتصدق عنها الامام زين العابدين عليه السلام مائة دينار.
زوجته
وأما أشهر زوجاته عليه السلام أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأم حكيم بنت أسد إبن المغيرة الثقفية وأم ولد.
أولاده
أما أولاده فسبعة، الإمام جعفر الصادق وكان يكنى به عليه السلام، وعبدالله الأفطح من أم فروة بنت القاسم، وعبدالله وابراهيم من أم حكيم، وعلي وأم سلمة وزينب من أم ولد، وله إبنتان زينب وأم سلمة، ويقال له ابنة واحدة وهي أم سلمة ماتوا كلهم إلا أولاد الصادق عليه السلام.
خاتمة المطاف
بعد هذا الموجز من حياة الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام، وقرأت فيه القليل من أقواله، وتعرفنااليسير من سيرته وأعماله، فالجدير أن يكون ذلك دعوة لنا جميعا للسير حذو منهج هذا الإمام العظيم، مقتفين لآثاره، ميممين نحو هدفه { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الإبرار، ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد }
اللهم أعنّا على أنفسنا بما تعين به الصالحين على أنفسهم، وخذ بأيدينا لما يسعدنا في آخرتنا ودنيانا إنك سميع مجيب، وجنبنا مزالق السوء، ومرابض الفتن، ودعاة الشر، إنك أنت العزيز القدير.
فهو عليه السلام مجمع الفضائل، ومنتهى المكارم، سبق الدنيا بعلمه، وامتلأت الكتب بحديثه، ولا غرور في أن يكون كذلك بعد ما سماه رسول لله صلى الله عليه وآله بالباقر - كما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري(عليه رضوان الله تعالى) - لأنه يبقر العلم بقراً، أي يفجره وينشره، فلم يرو عن أحد من أئمة أهل البيت بعد الإمام الصادق، ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام، فها هي كتب الفقه، والحديث، والتفسير، والأخلاق، مستفيضة بأحاديثه، مملوءة بآرائه، فقد روى عنه رجل واحد من أصحابه - محمد بن مسلم - ثلاثين ألف حديث، وجابر الجعفي سبعين ألف حديث، وليست هذه بميزة له عليه السلام على بقية الأئمة، فعقيدتنا أنهم صلوات الله عليهم متساوون في العلم، سواسية في الفضل، فهم يغترفون من منهل واحد: كتاب الله وسنة رسوله، وما أودع الله تعالى فيهم من العلم اللدني بصفتهم أئمة الحق، وساسة الخلق، وورثة الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم.
نعم الظروف التي مرت على الإمام الباقر عليه السلام كانت مواتية، فقد كانت الدولة الأموية الملعونة في نهايتها واهية البنيان، منهدّة الأركان، فاستغل عليه السلام الفرصة ونشر ما أمكنه نشره من العلوم والمعارف، كما استغل ولده الإمام الصادق عليه السلام بعده انشغال الدولتين الملعونتين - الأموية والعباسية - عنه فأتم ما كان أبوه الباقر عليه السلام قد أسسه، ولو قٌـدّر للإمام الجواد عليه السلام - مثلاً - أن يحصل على ظرف كظرف الصادقين عليهما السلام فما كان ليقصر عن ذلك، فهو الذي أجاب في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة.. وهكذا بقيتهم عليهم الصلاة والسلام.
وهناك شئ آخر يجب أن نفهمه هو أن العلم جانباً واحداً من حياة الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، فهو صلوات الله عليه أكثر الناس عبادة، وأعظمهم زهادة وأجمعهم لمكارم الأخلاق، وأحسن الناس سيرة، وأفضلهم سريرة.
وهذه صورة مصغرة عن حياة هذا الإمام العظيم وابن الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم وحفيد الامام الحسين الشهيد عليه السلام ، وما أحوجنا اليوم - ونحن نتطلع إلى غدٍ أفضل - أن نأخذ من حياته عليه السلام الدروس، وأن نستلهم من سيرته المثل الرفيعة، لنحقق أمانينا في الإصلاح، ونعيد مجدنا الغابر { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ...
مولده
ولد الامام الباقر عليه السلام في يوم الجمعة أو الثلاثاء من غرة رجب، وقيل الثالث من صفر سنة سبع وخمسين من الهجرة، وكان عليه السلام يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله، لذا لقب بالشبيه، كان ربع القامة، رقسق (دقيق) البشرة ، جعد الشعر ، ، له خال على خده، وخال أحمر على جسده، ضامر الكشح، حسن الصوت، مطرق الرأس.
عمره
أقام مع جده الامام الحسين عليه السلام ثلاث سنين أو أربع سنين ومع أبيه الامام علي بن الحسين عليه السلام أربعا و ثلاثين سنة وعشرة أشهر أو تسعا وثلاثين سنة وبعد أبيه تسع عشرة سنة وقيل ثماني عشرة وذلك في أيام إمامته.
استشهاده
استشهد عليه السلام في المدينة في يوم الإثنين من ذي الحجة وقيل في شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة ومائة ، وله يومئذ سبع وخمسون سنة مثل عمر أبيه وجده عليهم السلام ، دفن في البقيع مع أبيه الإمام زين العابدين وعمه الحسن السبط عليهما السلام ،و في الثامن من شوال سنة 1344هـ، هدم الوهابيون النواصب قبره، وقبور بقية الأئمة عليهم السلام والاولياء والصالحين والصحابة وغيرهم.
وقال الامام الصادق عليه السلام: كتب هشام بن عبد الملك لعنه الله الى عامل مدين يأمره بأن يأخذ أبي الباقر عليه السلام فيقتله وكتب الى عامل المدينة أن يحتال في سم أبى في طعام او شراب وصنع ما صنع حتى سم إمامنا الباقر عليه السلام ووقع في فراشه متورم الجسد ومرض من ذلك مرضا شديداً وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام.
إمامته وملوك عصره
وكان عليه السلام في سنين إمامته (19) سنة، ملك الوليد بن عبد الملك، يزيد بن عبد الملك، سليمان بن عبد الملك، عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك أخوه ، والوليد بن يزيد وإبراهيم أخوه.
نقش خاتمه
(العزة لله جميعاً) .
من سيرته واخلاقه
لو أخذ المسلمون سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام للعمل والتطبيق لحصلوا على أعظم مكسب في حقل التوجيه والأخلاق، ولسادوا الأمم ولامتدوا بالإسلام في أرجاء المعمورة، ولحققوا أعظم إنتصار في الحقل الداخلي والخارجي. فالبشرية لم تعهد بقادتها وموجهيها وعلمائها ومفكريها على مر العصور والأجيال بمثل هذه السير الغراء، وعسى أن يعي المسلمون للطريق فيأخذوا من هذا المعين الصافي، والمنبع العذب.
- كان عليه السلام إذا رأى مبتلى أخفى الإستعاذة.
- قال الإمام الصادق عليه السلام: كان أبي عليه السلام أقل أهل بيته مالاً، وأعظمهم مؤونة ، وكان يتصدق كل جمعة بدينار، وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل الجمعة على غيره من الأيام.
اما اخلاقه فكان قد قطن المدينة رجل من أهل الشام وهو يتردد كثيراً على بيت الإمام (عليه السلام) ويقول له:ليس على وجه الارض أبغض إليّ منك، ولا أشعر بعدواة مع أحد أشدّ من العداوة التي اشعر بها لك ولأهل بيتك! واعتقد ان الطاعة لله وللنبي ولأمير المؤمنين لا تتم الا بالعداء لك، واذا كنت تراني اتردد على بيتك فذلك لانك خطيب وأديب وذو بيان رائع! .
ومع هذا كله كان الإمام (عليه السلام) يعطف عليه ويحدثه بلين ورفق، ومرت الايام وابتلي الشامي بالمرض بحيث واجه الموت ويئس من الحياة فأوصى ان يصلي عليه أبو جعفر ( الإمام الباقر (عليه السلام) ) بعد موته.
وفي منتصف إحدى الليالي لاحظ أهل الرجل انه قد قضى نحبه، فغدا وصيه الى المسجد صباحاً ورأى الإمام الباقر (عليه السلام) قد فرغ من صلاته وجلس للتعقيب ، وكانت تلك عادته، فقال الوصي للإمام: ان ذلك الرجل الشامي قد أسرع للقاء ربه وأوصى ان تقيم الصلاة عليه انت.
فقال الإمام (عليه السلام) : (إنّه لم يمت … لا تتسرعوا وانتظروني حتى اجيء)..
ثم نهض فجدد وضوءه وصلى ركعتين ورفع يديه بالدعاء ثم سجد واستمر في سجوده حتى أشرقت الشمس، وعندئذ جاء الى بيت الشامي وجلس عند رأسه وناداه فأجاب، ثم أجلسه الإمام (عليه السلام) وأسند ظهره الى الحائط وطلب له شرابا فسقاه إياه وقال لأهله: ناولوه طعاماً بارداً، ثم عاد ادراجه.
ولم يمض وقت طويل حتى استعاد الشامي صحته فجاء الى الإمام (عليه السلام) قائلا: اشهد انك حجة الله على الناس .
ويقول محمد بن المنكدر ـ وهو من صوفيي ذلك العصر ـ خرجت من المدينة في يوم شديد الحرارة فرأيت أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) عائداً الى مزرعته من زيارة تفقديّة ـ ويرافقه اثنان من غلمانه أو أصحابه ـ فقلت في نفسي : ( رجل من كبار قريش وهو في طلب الدنيا في مثل هذا الوقت! لابد لي ان اعظه( .
فدنوت منه وسلمت عليه فردّ الإمام السلام علي بشدة والعرق يتصبب من رأسه ووجهه، فقلت له: سلمّك الله أرجل من مثلك يسعى وراء الدنيا في هذا الوقت! ما هو موقفك لو عاجلك الاجل وآنت على هذه الحال؟ فأجابني: (والله لو وافاني الأجل وأنا في هذه الحال لكنت في طاعة الله، لانني بهذه الطريقة اغني نفسي عنك وعن سائر الناس، واني لأخشى ان يغتالني الاجل وانا متورط في معصية(.
قلت: رحمك الله ظننت انني سوف اعظك لكنك انت الذي وعظتني وايقظتني .
من وصاياه
من أنفس ما تركه الأئمة عليهم السلام للمسلمين هو وصاياهم القيمة الكثيرة، الحافلة بالتوجيه والأخلاق والحكم والمعارف والأدب، فلم يعرف التاريخ الإسلامي مثل هذه الوصايا لمن سبقهم أو تأخر عنهم من العلماء والحكماء والفلاسفة والمفكرين، وما ذلك إلاّ لحرصهم على توجيه المجتمع، وإصلاح الأمة، وبث الأخلاق بين الناس، وليس هذا بكثير عليهم، فهم يعتبرون أنفسهم - فهم المكلفون بعد الرسول صلى الله عليه واله وسلم بنشر الإسلام، والمحافظة على السنن والشرائع المحمدية.
من وصية له عليه السلام لعمر بن العزيز: دخل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام على عمر بن العزيز فقال بن عبد العزيز: يا أبا جعفر أوصني، فقال عليه السلام أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولداً، وأوسطهم أخاً، وكبيرهم أباً، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبر أباك، وإذا صنعت معروفاً فربه (أدمه).
من حكمه
قال عليه السلام: ثلاثة من مكارم الدنيا والآخرة: أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جُهل عليك.
وقال عليه السلام: أشد الأعمال ثلاثة: مواساة الإخوان في المال، وإنصاف الناس من نفسك، وذكر الله عز وجل.
وقال عليه السلام: عالم ينتفع بعلمه أفضل من ألف عابد.
وقال عليه السلام: بأس العبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أعطي حسده، وإن ابتلي خذله.
بعض من كراماته ومعاجزه
• حدّث إبراهيم بن سعد قال: حدّثنا حكم بن سعد قال:
لقيتُ أبا جعفر محمّدَ بن عليٍّ الباقر عليه السّلام وبيده عصاً يضرب بها الصخر فينبع منه الماء. فقلت: يا ابن رسول الله، ما هذا ؟! قال: نبعةٌ مِن عصا موسى التي يتعجّبون منها. ( دلائل الإمامة لمحمّد بن جرير الطبريّ الإماميّ 96 ـ) وعنه: إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للشيخ الحرّ العامليّ 64:3 / ح 82، بإسناده عن حكيم ابن أسد. وجاء في كتاب الغرفة للسيّد محمّد علي الشاه عبدالعظيميّ 41، وعلى الصفحة 130 روى عن حكم أنّه قال: لقيتُ الباقر عليه السّلام وبيده عصاً، يضرب الصخر فينبع منه الماء ).
وحدّث أبو المفضّل محمّد بن عبدالله قال: حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد ابن عقدة، عن يحيى بن زكريّا، عن الحسن بن محبوب الزرّاد، عن محمّد بن سنان، عن المفضَّل بن عمر الجعفيّ، عن جابر بن يزيد الجُعفيّ قال:
مررتُ بعبد الله الحسن، فلمّا رآني سبّني وذكر الباقر عليه السّلام ( أي بسوء )، فجئتُ إلى أبي جعفر عليه السّلام، فلمّا أبصر بي تبسّم وقال: يا جابر، مررتَ بعبدالله بن حسن فسبّك وسبّني ؟! قلت: نعم يا سيّدي، ودعوتُ الله عليه. فقال لي: أوّل داخلٍ يدخل عليك هو.
فإذا هو قد دخل! فلمّا جلس قال له الباقر عليه السّلام: ما جاء بك يا عبدالله ؟! قال: أنت الذي تدّعي ما تدّعي! قال له الباقر عليه السّلام: ويلَك قد أكثرت! ثمّ قال: يا جابر، قلت: لبّيك، قال: احفرْ في الدار حَفيرة.
قال جابر: فحفرت. فقال لي ائْتِني بحطبٍ كثيرٍ وألْقهِ فيها. ففعلت، ثمّ قال: أضْرِمْه ناراً. ففعلت، ثمّ قال: يا عبدَالله بن حسن! قُمْ وادخلْها واخرجْ منها إن كنتَ صادقاً! قال عبدالله: قمْ فادخلْ أنت قَبْلي.
فقام أبو جعفر عليه السّلام ودخَلَها.. فلم يزل يدوسها برِجْله ويدور فيها حتّى جعلها رماداً، ثمّ خرج فجاءٍ وجلس، وجعل يمسح العرقَ عن وجهه، ثمّ قال: قُمْ قبّحك الله! فما أقربَ ما يحلّ بك كما حلّ بمروان بن الحكم وبولده!( دلائل الإمامة للطبريّ الإماميّ 109 ـ وعنه: إثبات الهداة للحرّ العاملي 64:3 ـ 65 / ح 87. وروى قريباً من ذلك:
وعن المفضَّل بن عمر قال: بينما أبو جعفر ( الباقر ) صلوات الله عليه سائرٌ مِن مكّة إلى المدينة.. إذ انتهى إلى جماعةٍ على الطريق، فإذا رجلٌ منهم قد نفق حمارُه ( أي مات )، وتبدّد متاعه، وهو يبكي. فلمّا رأى أبا جعفرٍ عليه السّلام أقبل إليه وقال له:
ـ يا ابن رسول الله، نفقَ حماري وبقيتُ منقطعاً، فادعُ اللهَ أن يُحييَ لي حماري.
فدعا أبو جعفر عليه السّلام.. فأحيا اللهُ تعالى له حمارَه. وفيه: قال جابر الجعفيّ: فحرّك أبو جعفر عليه السّلام شفتَيه بما لم يسمعه أحد منهم، فإذا بالحمار وقد انتفض، فأخذه صاحبه وحمل عليه رَحْلَه.. وسار معنا حتّى دخل مكّة. وعن أحمد بن إسحاق قال: حدّثنا عبدالله بن عبدالرحمان بن أبي نجران، عن أبي محمّد الثماليّ، عن إسحاق الجريريّ قال:
قال الباقر عليه السّلام: يا جريري، أرى لونك قد فقع، أبِكَ بواسير ؟!
قلت: نعم يا ابن رسول الله، وأسأل اللهَ عزّوجلّ ألاّ يحرمني الأجر.
قال: فأصِفُ لك دواءً ؟
قلت: يا ابن رسول الله، لقد عالجتُه بألف وأكثر من دواء.. فما انتفعت بشيءٍ من ذلك، وإنّ بواسيري تشخب دماً!
قال: وَيْحك يا جريريّ، فأنا طبيبُ الأطبّاء، ورأس العلماء، ورأس الحكماء، ومَعدِن الفقهاء، وسيّدُ أولادِ الأنبياء على وجه الأرض.
قلت: كذلك يا سيّدي ومولاي.
قال: إنّ بواسيرك أُناث تشخب دماً.
قلت: صدقتَ يا ابن رسول الله.
فذكرني على الدواء واستعملته.. فوَالله الذي لا إله إلاّ هو، ما فعلته إلاّ مَرّةً واحدةً حتّى برئ ما كان بي، فما أحسستُ بعد ذلك بدمٍ ولا وجع. فعُدتُ إليه مِن قابل، فقال لي: يا إسحاق قد بَرِئتَ والحمد لله. وعن محمّد بن مسلم قال: خرجتُ إلى المدينة وأنا وَجِع، فقيل له ( أي للإمام الباقر عليه السّلام ): محمّد بن مسلم وَجِع. فأرسل إليّ أبو جعفر عليه السّلام إناءً مع غلام، مغطّى بمنديل، فناولنيه الغلام وقال لي: اشربْه؛ فإنّه أمرَني ألاّ أبرحَ حتّى تشربه.
فتناولته.. فإذا رائحة المِسْك منه، وإذا شراب طيّبُ الطعم بارد، فلمّا شربتُه قال لي الغلام: يقول لك مولاي: إذا شربتَه فتعال. ففكّرت فيما قال لي وما أقدر على النهوض قبل ذلك على رِجْلي، فلمّا استقرّ الشراب في جوفي، فكأنّما أُنشِطتُ مِن عِقال، فأتيتُ بابه فاستأذنتُ عليه فصوّت بي: صحّ الجسم، أُدخُلْ. فدخلتُ عليه وأنا باكٍ، فسلّمت عليه وقبّلت يده ورأسه، فقال لي: وما يُبكيك يا محمّد ؟ فقلت: جُعلت فداك، أبكي على اغترابي وبُعد شقّتي وقلّة القدرة على المُقام عندك أنظر إليك. فقال لي: أمّا قلّة القدرة فكذلك جعل اللهُ أولياءَنا وأهلَ مودّتنا، وجعل البلاء إليهم سريعاً. وأمّا ما ذكرتَ من الغُربة.. فإنّ المؤمن في هذه الدنيا لغريب، وفي هذا الخلق منكوس حتّى يخرجَ مِن هذه الدار إلى رحمة الله. وأمّا ما ذكرتَ مِن بُعد الشُّقّة، فلَك بأبي عبدالله عليه السّلام ( أي الإمام الحسين سلام الله عليه ) أُسوة، بأرضٍ نائية عنّا بالفرات. وأمّا ما ذكرتَ مِن حُبِّك قُربَنا والنظرَ إلينا، وأنّك لا تقدر على ذلك، واللهُ يعلم ما في قلبك وجزاؤك عليه.
شعراءه:
(كثير عزة، الكميت، الورد الأسدي - أخو الكميت - السيد الحميري.)
بوابه:
(جابر الجعفي)
ألقابه
أما كنيته أبو جعفر لاغير، ولقبه الباقر، باقر العلم ،الشاكر لله ،الهادي ،الأمين ،الحاضر، الذاكر ،الخاشع، الصابر ،معدن العلم ،العلم الظاهر ،الشبيه لأنه كان يشبه رسول الله صلى الله عليه واله ، كما أخبر النبيصلى الله عليه واله وسلم جابر بن عبدالله الأنصاري: يا جابر ستدرك رجلاً من أهل بيتي إسمه أسمى وشمائله شمائلي يبقر العلم بقراً.
أصحابه
واما أصحابه فهم كثيرون واجتمعت العصابة أن أفقه أصحابه الأولين ستة وهم زرارة بن أعين ومعروف بن الخربوذ المكي وأبو بصير الأسدي والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم الطائفي وبريد بن معاوية العجلي. ومن أصحابه حمران بن أعين الشيباني وإخوته بكر وعبدالملك وعبدالرحمن ومحمد بن اسماعيل بن بزيع وعبدالله بن ميمون القداح ومحمد بن مروان الكوفي من ولد أبي الأسود واسماعيل بن المفضل الهاشمي من ولد نوفل بن الحارث وأبو هارون المكفوف وطريف بن ناصح بياع الأكفان وسعيد بن طريف الأسكاف الدؤلي واسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي وعقبة بن بشير الأسدي وأسلم المكي مولى ابن الحنفية وأبو بصير ليث بن البختري المرادي والكميت بن زيد الأسدي وناجية بن عمارة الصيداوي ومعاذ بن مسلم الهراء النحوي وكثير من الرجال.
أبوه
وأما أبوه عليه السلام فهو سيد الساجدين وذو الثفنات وخير العابدين وزين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام. جده الإمام الحسين الشهيد عليه السلام.
أمه
أما أمه عليه السلام فهي فاطمة أم عبدالله بنت الإمام الحسن عليه السلام، فهو عليه السلام هاشمي من هاشميين، وعلوي من علويين، وفاطمي من فاطميين، وأول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين عليهما السلام، ويقال أمه أم عبده بنت الحسن بن علي عليهم السلام. والأولى أصح وكانت من خيرات النساء وقال عنها الصادق عليه السلام صديقة لم يدرك مثلها في آل الحسن عليه السلام ولها كرامات قيل أنها كانت قاعدة عند جدار فتصدع الجدار وسمعت منه هدة شديدة فوضعت يدها تحت الجدار وقالت لا وحق المصطفى ما أذن الله لك في السقوط علي فبقي معلقاً حتى جزأته فتصدق عنها الامام زين العابدين عليه السلام مائة دينار.
زوجته
وأما أشهر زوجاته عليه السلام أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأم حكيم بنت أسد إبن المغيرة الثقفية وأم ولد.
أولاده
أما أولاده فسبعة، الإمام جعفر الصادق وكان يكنى به عليه السلام، وعبدالله الأفطح من أم فروة بنت القاسم، وعبدالله وابراهيم من أم حكيم، وعلي وأم سلمة وزينب من أم ولد، وله إبنتان زينب وأم سلمة، ويقال له ابنة واحدة وهي أم سلمة ماتوا كلهم إلا أولاد الصادق عليه السلام.
خاتمة المطاف
بعد هذا الموجز من حياة الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام، وقرأت فيه القليل من أقواله، وتعرفنااليسير من سيرته وأعماله، فالجدير أن يكون ذلك دعوة لنا جميعا للسير حذو منهج هذا الإمام العظيم، مقتفين لآثاره، ميممين نحو هدفه { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الإبرار، ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد }
اللهم أعنّا على أنفسنا بما تعين به الصالحين على أنفسهم، وخذ بأيدينا لما يسعدنا في آخرتنا ودنيانا إنك سميع مجيب، وجنبنا مزالق السوء، ومرابض الفتن، ودعاة الشر، إنك أنت العزيز القدير.