دفئ القلوب
12-24-2011, 12:40 AM
أسفار السيدة زينب ( عليها السلام )*
الشيخ فرج آل عمران القطيفي
السَّفَر الأوّل :
( من المدينة إلى الكوفة مع أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) ) : لمّا هاجر إليها سافرتْ (عليها السلام) هذا السفر وهي في غاية العز ونهاية الجلالة والاحتشام ، يسير بها موكب فخم رهيب من مواكب المعالي والمجد ، ومحفوف بأُبَّهَةٍ الخلافة ، محاط بهيبة النبوة ، مشتمل على السكينة والوقار ، فيه أبوها الكرّار أمير المؤمنين (عليه السلام) وإخوتها الحسنان سيّدا شباب أهل الجنة ، وحامل الراية العظمى محمد بن الحنفية ، وقمر بني هاشم العبّاس بن علي (عليها السلام) ، وزوجها الجواد عبد الله بن جعفر ، وأبناء عمومتها عبد الله بن عبّاس وعبيد الله وأخوتهما ، وبقيّة أبناء جعفر الطيّار وعقيل بن أبي طالب ، وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وأتباعهم من رؤساء القبائل وسادات العرب ، مدجّجين بالسلاح ، غاصّين في الحديد ، والرايات ترفرف على رؤوسهم وتخفق على هاماتهم ، وهي في غبطة وفرح وسرور .
السَّفَر الثاني :
( من الكوفة إلى المدينة مع أخيها الحسن (عليه السلام) بعد صُلْحه مع معاوية ) : سافرتْ (عليها السلام) هذا السفر وهي أيضاً في موكب فخم في غاية العز والدلال والعظمة والإجلال ، تحوطها الأبطال من إخوتها وبني هاشم الكرام ، حتى وصلت إلى حرم جدّها الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله) ومسقط رأسها المدينة المنورة ، محترمة موقّرة .
السَّفَر الثالث :
( من المدينة إلى كربلاء مع أخيها الحسين ) : ويشتمل هذا السفر على نبذة من مصائبها وصبرها وإخلاصها وثباتها .
لمّا عزم الحسين (عليه السلام) على السفر من الحجاز إلى العراق ، استأذنتْ زينب زوجها عبد الله بن جعفر أنْ تُصاحب أخاها الحسين (عليه السلام) ، مضافاً إلى اشتراط أمير المؤمنين (عليه السلام) عليه في ضمن عقد النكاح أنْ لا يمنعها متى أرادتْ السفر مع أخيها الحسين (عليه السلام) ، فأَذِنَ لها وأمر ابنَيه عوناً ومحمداً بالمسير مع الحسين (عليه السلام) ، والملازمة في خدمته والجهاد دونه ، فسافرتْ (عليها السلام) في ذلك الموكب الحسيني المهيب ، في عزّ وجلال وحشمة ووقار ، تَحْمِلُها المحامل المُزَرْكَشَة المزيّنة بالحرير والديباج ، قد فُرشتْ بالفرش الممهّدة ووسِّدتْ بالوسائد المنضّدة ، تحت رعاية أخيها الحسين (عليه السلام) ، تحفّ بها الأبطال من عشيرتها ، وتكتنفها الأسود الضارية من إخوتها وأبناء إخوتها وعمومتها كأبي الفضل العبّاس ، وعلي الأكبر ، والقاسم بن الحسن ، وأبناء جعفر وعقيل ، وغيرهم من الهاشميين ، والعبيد والإماء طوع أمرها ورهن إشارتها ، ولكنّها (عليها السلام) سافرت هذه السفرة منقطعة من علائق الدنيا بأسرها في سبيل الله ، قد أعرضتْ عن زهرة الحياة من المال والبيت والزوج والولد والخدم والحشم ، وصحبتْ أخاها الحسين (عليه السلام) ، ناصرةً لدين الله وباذلةً النفس والنفيس لإمامها ابن بنت رسول الله ، مع علمها بجميع ما يجري عليها من المصائب والنوائب والمِحَن ، كما يدلّ عليه الحديث المروي في كتاب ( كامل الزيارات ) للشيخ الفقيه أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه طاب ثراه ، قال :
حدّثني أبو عيسى عبيد الله بن الفضل بن محمد بن هلال الطائي البصري ، قال : حدّثني أبو عثمان سعيد بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن سلام بن يسار الكوفي ، قال : حدّثني نوح بن دُرَّاج ، قال : حدّثني قُدامة بن زائدة عن أبيه ، قال : قال علي بن الحسين : ( بلغني يا زائدة أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أحياناً .
فقلتُ : إنّ ذلك لَكَمَا بلغك .
فقال لي : ولماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذِكْر فضائلنا والواجب على هذه الأُمّة مِن حقّنا ؟
فقلتُ : والله ، ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط ، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه .
فقال : والله ، إنّ ذلك لكذلك .
فقلتُ : والله ، إنّ ذلك لَكذلك ، يقولها ثلاثا وأقولها ثلاثاً .
فقال : أبشِر ثمّ أبشِر ثمّ أبشِر ، فلأُخبرنّك بخبر كان عندي في النخب المخزون ، فإنّه لمّا أصابنا في الطفّ ما أصابنا وقُتل أبي وقُتل مَن كان معه مِن وُلْده وإخوته وسائر أهله وحُمِلَتْ حَرَمُهُ ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة ، فجعلتُ أنظر إليهم صرعى ولم يوارَوا ، فعظم ذلك في صدري واشتدّ ـ لِمَا أرى منهم ـ قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيّنتْ ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي (عليها السلام) . فقالتْ : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي ؟ فقلتُ : وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي ووُلْد عمّي مضرّجين بدمائهم مرمّلين بالعراء مسلّبين ، لا يُكفَّنون ولا يُوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ولا يَقرُبُهم بشرٌ كأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر . فقالتْ : لا يجزعنّك ما ترى ، فوالله ، إنّ ذلك لَعهد من رسول الله (صلى الله عليه و آله) إلى جدّك وأبيك وعمّك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأُمّة لا تعرفهم ، فراعنة هذه الأُمّة ، وهم معروفون من أهل السماوات ، أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرّجة ، ويَنصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء ، لا يُدْرَس أثرُه ولا يعفو رسمُه على كرور الليالي والأيّام ، وليجهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في مَحْوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ علوّاً . فقلتُ : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟ فقالتْ : نعم ، حدّثتْني أُمّ أَيمن أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) زار منزل فاطمة (عليها السلام) في يوم من الأيّام ، فعملتْ له حريرة وأتاه عليٌّ بطبق فيه تمر ، ثمّ قالتْ أُمّ أَيمن : فأتَيْتُهم بعُسّ فيه لبن وزبد ، فأكل رسول الله (صلى الله عليه واله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين من تلك الحريرة ، وشرب رسول الله (صلى الله عليه و آله) وشربوا من ذلك اللبن ، ثمّ أكلوا وأكل من ذلك التمر والزبد ، ثمّ غسل رسول الله ( صلى الله عليه و آله) يده وعلي (عليه السلام) يصبّ عليه الماء ، فلمّا فرغ من غَسْل يده مسح وجهه ثمّ نظر إلى علي (عليه السلام) وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه ، وتوجّه نحو القبلة وبسط يديه ودعا ، ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج وجرتْ دموعُه ، ثمّ رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنّها صوب المطر ، فحزنتْ فاطمة (عليها السلام) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) وحزنتُ معهم لِمَا رأينا رسول الله (صلى الله عليه و آله) ، وهبنا أنْ نسأله ، حتى إذا طال ذلك قال له علي (عليه السلام) وقالتْ له فاطمة (عليها السلام) : ما يُبكيك يا رسول الله ؟ لا أبكى الله عينَيك ، فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك . فقال (صلى الله عليه و آله) : يا أخي سررتُ بكم .
وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هنا :
فقال : يا حبيبي سررتُ بكم سروراً ما سررتُ مثله قَط ، وإنّي لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عَلَيّ فيكم ، إذْ هبط عَلَيّ جبرائيل فقال : يا محمد ، إنّ الله تبارك وتعالى أطلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكْمَلَ لك النعمة وهنّاك العطيّة بأنْ جعلهم وذرّيّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة ، لا يُفرّق بينك وبينهم ، يُحبَّون كما تُحَب ويُعطَون كما تُعطي حتى ترضى ، وفوق الرضا على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملّتك ، ويزعمون أنّهم من أُمّتك ، براء من الله ومنك خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً ، شتّى مصارعهم ، نائية قبورهم ، خيرة من الله لهم ولك فيهم ، فاحمد الله عزّ وجل على خيرته وارْضَ بقضائه ، فحمدتُ الله ورضيتُ بقضائه بما اختاره لكم .
ثمّ قال لي جبرائيل : يا محمد ، إنّ أخاك مضطهَد بعدك ، مغلوب على أُمّتك ، معتوب من أعدائك ، ثمّ مقتول بعدك ، يقتله أشرّ الخليقة وأشقى البريّة ، يكون نظير عاقِر الناقة ببلدٍ تكون إليه هجرتُه وهو مغرَس شيعته وشيعة وُلْده ، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم ، وإنّ سبطك هذا وأََوْمَأَ بيده إلى الحسين (عليه السلام) مقتول في عصابة من ذرّيتك وأهل بيتك وأخيار من أُمّتك بضفّة الفرات بأرضٍ يُقال لها كربلاء ، مِن أجلها يَكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذرّيتك في اليوم الذي لا ينقضي كَرْبه ولا تفنى حسرتُه ، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة ، يُقتَل فيها سبطك وأهله ، وإنّها من بطحاء الجنّة ، فإذا كان اليوم الذي يُقتَل فيه سبطك وأهله ، وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة ، تزعزعتْ الأرض من أقطارها ، ومادتْ الجبال وكثر اضطرابها ، واصطفقتْ البحار بأمواجها ، وماجتْ السماوات بأهلها غضباً لك يا محمد ولذرّيتك ، واستهضاماً لِمَا يُنْتَهك من حرمتك ولِشَرّ ما تُكافئ به في ذرّيتك وعترتك ، ولا يبقى شيء من ذلك إلاّ استأذن الله عزّ وجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجّة الله على خلقه بعدك ، فيُوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومَن فيهنّ :
إنّي أنا الله الملك القادر الذي لا يفوته هارب ، ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام ، وعزّتي وجلالي لأُعَذِّبَنّ مَن وتر رسولي وصفِّيي وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته عذاباً لا أُعذّب به أحداً من العالمين ، فعند ذلك يضجّ كل شيء في السماوات والأرضين بِلَعْنِ مَن ظلم عترتك واستحلّ حرمتك .
فإذا برزتْ تلك العصابة إلى مضاجعها تولّى الله عزّ وجل قَبْض أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكةٌ من السماء السابعة ، معهم آنية من الياقوت والزمرّد ، مملوءة من ماء الحياة وحُلل مِن حُلل الجنّة وطيب من طيب الجنّة ، فغسّلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحُلل وحنّطوها بذلك الطيب ، وصلّتْ الملائكة صفّاً صفّاً عليهم ، ثمّ يبعث الله قوماً مِن أُمّتك لا يعرفهم الكفّار لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيّة ، فيوارون أجسادهم ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء يكون عَلَمَاً لأهل الحقّ وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ، وتحفّه ملائكة من كلّ سماء مئة ألف ملك في كل يوم وليلة ، ويصلّون عليه ، ويطوفون حوله ، ويسبّحون عنده ، ويستغفرون الله لِمَن زاره ، ويكتبون أسماء زائريه مِن أُمّتك ، متقرّبين إلى الله تعالى وإليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ، ويوسَمون في وجوههم بمَيْسَم نور عرش الله : هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء ، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم مِن أثر ذلك المَيْسم نور تغشى منه الأبصار يدلّ عليهم فيعرفونهم ، وكأنّي بك يا محمّد ، بيني وبين ميكائيل وعليٌّ أمامنا ، ومعنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عددهم ونحن نلتقط ذلك الموسوم في وجهه من بين الخلائق حتى ينجيهم الله مِن هول ذلك اليوم وشدائده ، وذلك حكم الله وعطاؤه لِمَنْ زار قبرك يا محمد ، أو قبر أخيك ، أو قبر سبطيك ، لا يريد به غير الله عزّ وجل ، ويجتهد أناس ممّن حقّتْ إليهم اللعنة من الله والسخط أنْ يعفو رَسْم ذلك القبر ويمحوا أثره ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً . ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه و آله) : فهذا أبكاني وأحزنني ) .
قالت زينب (عليها السلام) :
فلمّا ضرب ابنُ ملجم لعنه الله أبي (عليه السلام) ورأيتُ عليه أثر الموت ، دنوتُ منه وقلتُ له : يا أبتِ حدّثتْني أُمّ أيمن بكذا وكذا وقد أحببت أنْ أَسْمَعَه منك .
فقال : يا بنيّة ، الحديث كما حدّثتْكِ أُمّ أيمن ، وكأنّي بكِ وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، أذلاّء خاشعين ، تخافون أنْ يتخطّفكم الناس ، فصبراً صبراً فو الذي فَلَقَ الحبّة وَبَرَأَ النَسْمَة ، ما لله على ظهْر الأرض يومئذٍ وَلِيّ غير مُحبّيكم وشيعتكم ، ولقد قال لنا رسول الله (صلى الله عليه و آله) حين أخبرنا بهذا الخبر : إنّ إبليس لعنه الله في ذلك اليوم يطير فرحاً ، فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته ، فيقول : يا معاشر الشياطين ، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطَلِبَة ، وبلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورثناهم النار إلاّ مَن اعتصم بهذه العصابة ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم وحَمْلهم على عداوتهم وإغرائهم وأوليائهم ، حتّى تستحكموا ضلالة الخَلْق وكفرهم ، ولا ينجوا منهم ناجٍ ، ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه وهو كذوب أنّه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنباً غير الكبائر .
قال زائدة :
ثمّ قال علي بن الحسين بعد أنْ حدّثني بهذا الحديث : ( خذْه إليك ما لو ضربتَ في طَلَبِه آباط الإبل حَوْلاً لكان قليلاً ) ، ولكون زينب (عليها السلام) عالمة بجميع ما يجري عليها من المصائب والنوائب والمِحَن ، وأنّها على بصيرة من أمرها ، قابلتْ تلك الرزايا والفوادح بجميل الصبر وعظيم الاتّزان وقوّة الإيمان وكامل الإخلاص .
وإليك نبذة يسيرة من مصائبها العظيمة وفوادحها الكبرى :
فإنّها (عليها السلام) رأتْ من المصائب والنوائب ما لو نزلتْ على الجبال الراسيات لانْفسحتْ واندكّتْ جوانبها ، لكنّها في ذلك تصبر الصبر الجميل كما هو معلوم لكلّ مَن درس حياتها ، وأوّل مصيبة دهمتْها هو :
* فقْدها جدّها النبي (صلى الله عليه و آله) وما لاقى أهلها بعده من المكاره .
* ثمّ فقدها أُمّها الكريمة بنت رسول الله بعد مرض شديد وكدر من العيش والاعتكاف في بيت الأحزان .
* ثمّ فقدها أباها عليّاً وهو مضرّج بدمه من سيف ابن ملجم المرادي (لعنه الله) .
* ثمّ فقْدها أخاها المجتبى المسموم ، تنظر إليه وهو يتقيّأ كبدَه في الطشتْ قطعة قطعة ، وبعد موته (عليه السلام) تُرْشَق جنازته بالسهام .
* ثمّ رؤيتها أخاها الحسين (عليه السلام) تتقاذف به البلاد حتى نزل كربلاء ، وهناك دهمتْها الكوارث العِظَام مِن قَتْله (عليه السلام) وقَتْل بقيّة إخوتها وأولادهم وأولاد عمومتها وخواص الأُمّة من شيعة أبيها (عليه السلام) عطاشى .
* ثمّ المِحَن التي لاقتْها من هجوم أعداء الله على رَحْلِها ، وما فعلوه من سلب وسبي ونهب وإهانة وضرب لكرائم النبوة وودائع الرسالة ، وتكفّلها حال النساء والأطفال في ذلّة الأَسْر .
* ثمّ سيْرها معهم من بلد إلى بلد ومِن منزل إلى منزل ومِن مَجْلِس إلى مجلس .
وغير ذلك من الرزايا التي يَعجز عنها البيان ويَكِلّ اللسان ، وهي مع ذلك كلّه صابرة محتسبة ومفوّضة أمرها إلى الله ، قائمة بوظائف شاقّة مِن مداراة العيال ومراقبة الصغار واليتامى من أولاد إخوتها وأهل بيتها ، رابطة الجأش بإيمانها الثابت وعقيدتها الراسخة ، حتى أنّها كانت تسلّي إمام زمانها زين العابدين (عليه السلام) ، وأمّا ما كان يظهر منها بعض الأحيان من البكاء وغيره فذلك أيضاً كان لطلب الثواب أو للرحمة التي أودعها الله عزّ وجل في المؤمنين ، أمّا طلب الثواب فلِعِلْمِها بما أعدّه الله عزّ وجل للبكّائين على الحسين .
قال الصادق (عليه السلام) : ( مَن ذَكَرَنا أو ذُكِرْنَا عنده فخرج مِن عينِه مثل جناح البعوضة ، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ) .
وأمّا الرحمة التي أودعها الله في المؤمنين فمثل ما كان من النبي (صلى الله عليه و آله) على ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك عندما دخل رسول الله (صلى الله عليه و آله) ووَلَده إبراهيم يجود بنفسه قال : فجعلتْ عَيْنَا رسول الله (صلى الله عليه و آله) تذرفان ، فقال له عبد الرحمان بن عوف : وأنت يا رسول الله ، فقال : ( يا بن عوف إنّها رحمة ) . ثمّ أَتْبَعَهَا بأخرى . فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله) : ( إنّ العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربّنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) ، وبالجملة فزينب (عليها السلام) صبرت صبر الكرام على تلك المصائب العظام والنوائب الجسام .
فمِن عجيب صبرها وإخلاصها وثباتها ما نقله في : ( الطِرَاز المذهّب ) أنّها ـ سلام الله عليها وعلى أبيها وأُمّها وأخوَيْها ـ لمّا وقفتْ على جسد أخيها الحسين (عليه السلام) قالت : اللّهمّ تقبّل مِنّا هذا القليل مِن القربان ، قال : فقارنتْ أُمّها في الكرامات والصبر في النوائب بحيث خرقتْ العادات ولَحقتْ بالمعجزات .
قال المؤلّف النقدي أعلا الله مقامه :
فهذه الكلمات من هذه الحرّة الطاهرة ، في تلك الوقفة التي رأتْ بها أخاها العزيز بتلك الحالة المُفجِعة التي كانت فيها ، تكشف لنا قوّة إيمانها ورسوخ عقيدتها وفنائها في جنب الله تعالى ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل .
وقال عمر أبو النصر اللبناني في كتابه : الحسين بن علي ، المطبوع حديثاً :
وممّا يجب أنْ يُصار إلى ذِكْره في هذا الباب ما ظهر من زينب بنت فاطمة وأخت الحسين (عليه السلام) من جرأة وثبات جأش في موقفها هذا يوم المعركة ، وعند ابن زياد ، وفي قصر يزيد ، إلى آخر ما قال . ولله دَرّ الشاعر الخطيب السيد حسن بن السيد عباس البغدادي حيث يقول :
يا قلب زينب ما لاقيتَ مِن مِحَنٍ = فيكَ الرزايا وكلّ الصَبْر قد جُمِعَا
فلو كان ما فيك مِن صَبْر ومِن مِحَنٍ = في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانْصَدَعَا
يَكفيك صَبْراً قلوبُ الناس كلّهم = تفطّرتْ للذي لاقيتِهِ جَزَعَا
(http://ashaqalhussein.com/vb/search.php?do=finduser&u=5056&starteronly=1)
الشيخ فرج آل عمران القطيفي
السَّفَر الأوّل :
( من المدينة إلى الكوفة مع أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) ) : لمّا هاجر إليها سافرتْ (عليها السلام) هذا السفر وهي في غاية العز ونهاية الجلالة والاحتشام ، يسير بها موكب فخم رهيب من مواكب المعالي والمجد ، ومحفوف بأُبَّهَةٍ الخلافة ، محاط بهيبة النبوة ، مشتمل على السكينة والوقار ، فيه أبوها الكرّار أمير المؤمنين (عليه السلام) وإخوتها الحسنان سيّدا شباب أهل الجنة ، وحامل الراية العظمى محمد بن الحنفية ، وقمر بني هاشم العبّاس بن علي (عليها السلام) ، وزوجها الجواد عبد الله بن جعفر ، وأبناء عمومتها عبد الله بن عبّاس وعبيد الله وأخوتهما ، وبقيّة أبناء جعفر الطيّار وعقيل بن أبي طالب ، وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وأتباعهم من رؤساء القبائل وسادات العرب ، مدجّجين بالسلاح ، غاصّين في الحديد ، والرايات ترفرف على رؤوسهم وتخفق على هاماتهم ، وهي في غبطة وفرح وسرور .
السَّفَر الثاني :
( من الكوفة إلى المدينة مع أخيها الحسن (عليه السلام) بعد صُلْحه مع معاوية ) : سافرتْ (عليها السلام) هذا السفر وهي أيضاً في موكب فخم في غاية العز والدلال والعظمة والإجلال ، تحوطها الأبطال من إخوتها وبني هاشم الكرام ، حتى وصلت إلى حرم جدّها الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله) ومسقط رأسها المدينة المنورة ، محترمة موقّرة .
السَّفَر الثالث :
( من المدينة إلى كربلاء مع أخيها الحسين ) : ويشتمل هذا السفر على نبذة من مصائبها وصبرها وإخلاصها وثباتها .
لمّا عزم الحسين (عليه السلام) على السفر من الحجاز إلى العراق ، استأذنتْ زينب زوجها عبد الله بن جعفر أنْ تُصاحب أخاها الحسين (عليه السلام) ، مضافاً إلى اشتراط أمير المؤمنين (عليه السلام) عليه في ضمن عقد النكاح أنْ لا يمنعها متى أرادتْ السفر مع أخيها الحسين (عليه السلام) ، فأَذِنَ لها وأمر ابنَيه عوناً ومحمداً بالمسير مع الحسين (عليه السلام) ، والملازمة في خدمته والجهاد دونه ، فسافرتْ (عليها السلام) في ذلك الموكب الحسيني المهيب ، في عزّ وجلال وحشمة ووقار ، تَحْمِلُها المحامل المُزَرْكَشَة المزيّنة بالحرير والديباج ، قد فُرشتْ بالفرش الممهّدة ووسِّدتْ بالوسائد المنضّدة ، تحت رعاية أخيها الحسين (عليه السلام) ، تحفّ بها الأبطال من عشيرتها ، وتكتنفها الأسود الضارية من إخوتها وأبناء إخوتها وعمومتها كأبي الفضل العبّاس ، وعلي الأكبر ، والقاسم بن الحسن ، وأبناء جعفر وعقيل ، وغيرهم من الهاشميين ، والعبيد والإماء طوع أمرها ورهن إشارتها ، ولكنّها (عليها السلام) سافرت هذه السفرة منقطعة من علائق الدنيا بأسرها في سبيل الله ، قد أعرضتْ عن زهرة الحياة من المال والبيت والزوج والولد والخدم والحشم ، وصحبتْ أخاها الحسين (عليه السلام) ، ناصرةً لدين الله وباذلةً النفس والنفيس لإمامها ابن بنت رسول الله ، مع علمها بجميع ما يجري عليها من المصائب والنوائب والمِحَن ، كما يدلّ عليه الحديث المروي في كتاب ( كامل الزيارات ) للشيخ الفقيه أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه طاب ثراه ، قال :
حدّثني أبو عيسى عبيد الله بن الفضل بن محمد بن هلال الطائي البصري ، قال : حدّثني أبو عثمان سعيد بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن سلام بن يسار الكوفي ، قال : حدّثني نوح بن دُرَّاج ، قال : حدّثني قُدامة بن زائدة عن أبيه ، قال : قال علي بن الحسين : ( بلغني يا زائدة أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أحياناً .
فقلتُ : إنّ ذلك لَكَمَا بلغك .
فقال لي : ولماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذِكْر فضائلنا والواجب على هذه الأُمّة مِن حقّنا ؟
فقلتُ : والله ، ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط ، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه .
فقال : والله ، إنّ ذلك لكذلك .
فقلتُ : والله ، إنّ ذلك لَكذلك ، يقولها ثلاثا وأقولها ثلاثاً .
فقال : أبشِر ثمّ أبشِر ثمّ أبشِر ، فلأُخبرنّك بخبر كان عندي في النخب المخزون ، فإنّه لمّا أصابنا في الطفّ ما أصابنا وقُتل أبي وقُتل مَن كان معه مِن وُلْده وإخوته وسائر أهله وحُمِلَتْ حَرَمُهُ ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة ، فجعلتُ أنظر إليهم صرعى ولم يوارَوا ، فعظم ذلك في صدري واشتدّ ـ لِمَا أرى منهم ـ قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيّنتْ ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي (عليها السلام) . فقالتْ : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي ؟ فقلتُ : وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي ووُلْد عمّي مضرّجين بدمائهم مرمّلين بالعراء مسلّبين ، لا يُكفَّنون ولا يُوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ولا يَقرُبُهم بشرٌ كأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر . فقالتْ : لا يجزعنّك ما ترى ، فوالله ، إنّ ذلك لَعهد من رسول الله (صلى الله عليه و آله) إلى جدّك وأبيك وعمّك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأُمّة لا تعرفهم ، فراعنة هذه الأُمّة ، وهم معروفون من أهل السماوات ، أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرّجة ، ويَنصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء ، لا يُدْرَس أثرُه ولا يعفو رسمُه على كرور الليالي والأيّام ، وليجهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في مَحْوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ علوّاً . فقلتُ : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟ فقالتْ : نعم ، حدّثتْني أُمّ أَيمن أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) زار منزل فاطمة (عليها السلام) في يوم من الأيّام ، فعملتْ له حريرة وأتاه عليٌّ بطبق فيه تمر ، ثمّ قالتْ أُمّ أَيمن : فأتَيْتُهم بعُسّ فيه لبن وزبد ، فأكل رسول الله (صلى الله عليه واله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين من تلك الحريرة ، وشرب رسول الله (صلى الله عليه و آله) وشربوا من ذلك اللبن ، ثمّ أكلوا وأكل من ذلك التمر والزبد ، ثمّ غسل رسول الله ( صلى الله عليه و آله) يده وعلي (عليه السلام) يصبّ عليه الماء ، فلمّا فرغ من غَسْل يده مسح وجهه ثمّ نظر إلى علي (عليه السلام) وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه ، وتوجّه نحو القبلة وبسط يديه ودعا ، ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج وجرتْ دموعُه ، ثمّ رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنّها صوب المطر ، فحزنتْ فاطمة (عليها السلام) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) وحزنتُ معهم لِمَا رأينا رسول الله (صلى الله عليه و آله) ، وهبنا أنْ نسأله ، حتى إذا طال ذلك قال له علي (عليه السلام) وقالتْ له فاطمة (عليها السلام) : ما يُبكيك يا رسول الله ؟ لا أبكى الله عينَيك ، فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك . فقال (صلى الله عليه و آله) : يا أخي سررتُ بكم .
وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هنا :
فقال : يا حبيبي سررتُ بكم سروراً ما سررتُ مثله قَط ، وإنّي لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عَلَيّ فيكم ، إذْ هبط عَلَيّ جبرائيل فقال : يا محمد ، إنّ الله تبارك وتعالى أطلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكْمَلَ لك النعمة وهنّاك العطيّة بأنْ جعلهم وذرّيّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة ، لا يُفرّق بينك وبينهم ، يُحبَّون كما تُحَب ويُعطَون كما تُعطي حتى ترضى ، وفوق الرضا على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملّتك ، ويزعمون أنّهم من أُمّتك ، براء من الله ومنك خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً ، شتّى مصارعهم ، نائية قبورهم ، خيرة من الله لهم ولك فيهم ، فاحمد الله عزّ وجل على خيرته وارْضَ بقضائه ، فحمدتُ الله ورضيتُ بقضائه بما اختاره لكم .
ثمّ قال لي جبرائيل : يا محمد ، إنّ أخاك مضطهَد بعدك ، مغلوب على أُمّتك ، معتوب من أعدائك ، ثمّ مقتول بعدك ، يقتله أشرّ الخليقة وأشقى البريّة ، يكون نظير عاقِر الناقة ببلدٍ تكون إليه هجرتُه وهو مغرَس شيعته وشيعة وُلْده ، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم ، وإنّ سبطك هذا وأََوْمَأَ بيده إلى الحسين (عليه السلام) مقتول في عصابة من ذرّيتك وأهل بيتك وأخيار من أُمّتك بضفّة الفرات بأرضٍ يُقال لها كربلاء ، مِن أجلها يَكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذرّيتك في اليوم الذي لا ينقضي كَرْبه ولا تفنى حسرتُه ، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة ، يُقتَل فيها سبطك وأهله ، وإنّها من بطحاء الجنّة ، فإذا كان اليوم الذي يُقتَل فيه سبطك وأهله ، وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة ، تزعزعتْ الأرض من أقطارها ، ومادتْ الجبال وكثر اضطرابها ، واصطفقتْ البحار بأمواجها ، وماجتْ السماوات بأهلها غضباً لك يا محمد ولذرّيتك ، واستهضاماً لِمَا يُنْتَهك من حرمتك ولِشَرّ ما تُكافئ به في ذرّيتك وعترتك ، ولا يبقى شيء من ذلك إلاّ استأذن الله عزّ وجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجّة الله على خلقه بعدك ، فيُوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومَن فيهنّ :
إنّي أنا الله الملك القادر الذي لا يفوته هارب ، ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام ، وعزّتي وجلالي لأُعَذِّبَنّ مَن وتر رسولي وصفِّيي وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته عذاباً لا أُعذّب به أحداً من العالمين ، فعند ذلك يضجّ كل شيء في السماوات والأرضين بِلَعْنِ مَن ظلم عترتك واستحلّ حرمتك .
فإذا برزتْ تلك العصابة إلى مضاجعها تولّى الله عزّ وجل قَبْض أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكةٌ من السماء السابعة ، معهم آنية من الياقوت والزمرّد ، مملوءة من ماء الحياة وحُلل مِن حُلل الجنّة وطيب من طيب الجنّة ، فغسّلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحُلل وحنّطوها بذلك الطيب ، وصلّتْ الملائكة صفّاً صفّاً عليهم ، ثمّ يبعث الله قوماً مِن أُمّتك لا يعرفهم الكفّار لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيّة ، فيوارون أجسادهم ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء يكون عَلَمَاً لأهل الحقّ وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ، وتحفّه ملائكة من كلّ سماء مئة ألف ملك في كل يوم وليلة ، ويصلّون عليه ، ويطوفون حوله ، ويسبّحون عنده ، ويستغفرون الله لِمَن زاره ، ويكتبون أسماء زائريه مِن أُمّتك ، متقرّبين إلى الله تعالى وإليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ، ويوسَمون في وجوههم بمَيْسَم نور عرش الله : هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء ، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم مِن أثر ذلك المَيْسم نور تغشى منه الأبصار يدلّ عليهم فيعرفونهم ، وكأنّي بك يا محمّد ، بيني وبين ميكائيل وعليٌّ أمامنا ، ومعنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عددهم ونحن نلتقط ذلك الموسوم في وجهه من بين الخلائق حتى ينجيهم الله مِن هول ذلك اليوم وشدائده ، وذلك حكم الله وعطاؤه لِمَنْ زار قبرك يا محمد ، أو قبر أخيك ، أو قبر سبطيك ، لا يريد به غير الله عزّ وجل ، ويجتهد أناس ممّن حقّتْ إليهم اللعنة من الله والسخط أنْ يعفو رَسْم ذلك القبر ويمحوا أثره ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً . ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه و آله) : فهذا أبكاني وأحزنني ) .
قالت زينب (عليها السلام) :
فلمّا ضرب ابنُ ملجم لعنه الله أبي (عليه السلام) ورأيتُ عليه أثر الموت ، دنوتُ منه وقلتُ له : يا أبتِ حدّثتْني أُمّ أيمن بكذا وكذا وقد أحببت أنْ أَسْمَعَه منك .
فقال : يا بنيّة ، الحديث كما حدّثتْكِ أُمّ أيمن ، وكأنّي بكِ وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، أذلاّء خاشعين ، تخافون أنْ يتخطّفكم الناس ، فصبراً صبراً فو الذي فَلَقَ الحبّة وَبَرَأَ النَسْمَة ، ما لله على ظهْر الأرض يومئذٍ وَلِيّ غير مُحبّيكم وشيعتكم ، ولقد قال لنا رسول الله (صلى الله عليه و آله) حين أخبرنا بهذا الخبر : إنّ إبليس لعنه الله في ذلك اليوم يطير فرحاً ، فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته ، فيقول : يا معاشر الشياطين ، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطَلِبَة ، وبلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورثناهم النار إلاّ مَن اعتصم بهذه العصابة ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم وحَمْلهم على عداوتهم وإغرائهم وأوليائهم ، حتّى تستحكموا ضلالة الخَلْق وكفرهم ، ولا ينجوا منهم ناجٍ ، ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه وهو كذوب أنّه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنباً غير الكبائر .
قال زائدة :
ثمّ قال علي بن الحسين بعد أنْ حدّثني بهذا الحديث : ( خذْه إليك ما لو ضربتَ في طَلَبِه آباط الإبل حَوْلاً لكان قليلاً ) ، ولكون زينب (عليها السلام) عالمة بجميع ما يجري عليها من المصائب والنوائب والمِحَن ، وأنّها على بصيرة من أمرها ، قابلتْ تلك الرزايا والفوادح بجميل الصبر وعظيم الاتّزان وقوّة الإيمان وكامل الإخلاص .
وإليك نبذة يسيرة من مصائبها العظيمة وفوادحها الكبرى :
فإنّها (عليها السلام) رأتْ من المصائب والنوائب ما لو نزلتْ على الجبال الراسيات لانْفسحتْ واندكّتْ جوانبها ، لكنّها في ذلك تصبر الصبر الجميل كما هو معلوم لكلّ مَن درس حياتها ، وأوّل مصيبة دهمتْها هو :
* فقْدها جدّها النبي (صلى الله عليه و آله) وما لاقى أهلها بعده من المكاره .
* ثمّ فقدها أُمّها الكريمة بنت رسول الله بعد مرض شديد وكدر من العيش والاعتكاف في بيت الأحزان .
* ثمّ فقدها أباها عليّاً وهو مضرّج بدمه من سيف ابن ملجم المرادي (لعنه الله) .
* ثمّ فقْدها أخاها المجتبى المسموم ، تنظر إليه وهو يتقيّأ كبدَه في الطشتْ قطعة قطعة ، وبعد موته (عليه السلام) تُرْشَق جنازته بالسهام .
* ثمّ رؤيتها أخاها الحسين (عليه السلام) تتقاذف به البلاد حتى نزل كربلاء ، وهناك دهمتْها الكوارث العِظَام مِن قَتْله (عليه السلام) وقَتْل بقيّة إخوتها وأولادهم وأولاد عمومتها وخواص الأُمّة من شيعة أبيها (عليه السلام) عطاشى .
* ثمّ المِحَن التي لاقتْها من هجوم أعداء الله على رَحْلِها ، وما فعلوه من سلب وسبي ونهب وإهانة وضرب لكرائم النبوة وودائع الرسالة ، وتكفّلها حال النساء والأطفال في ذلّة الأَسْر .
* ثمّ سيْرها معهم من بلد إلى بلد ومِن منزل إلى منزل ومِن مَجْلِس إلى مجلس .
وغير ذلك من الرزايا التي يَعجز عنها البيان ويَكِلّ اللسان ، وهي مع ذلك كلّه صابرة محتسبة ومفوّضة أمرها إلى الله ، قائمة بوظائف شاقّة مِن مداراة العيال ومراقبة الصغار واليتامى من أولاد إخوتها وأهل بيتها ، رابطة الجأش بإيمانها الثابت وعقيدتها الراسخة ، حتى أنّها كانت تسلّي إمام زمانها زين العابدين (عليه السلام) ، وأمّا ما كان يظهر منها بعض الأحيان من البكاء وغيره فذلك أيضاً كان لطلب الثواب أو للرحمة التي أودعها الله عزّ وجل في المؤمنين ، أمّا طلب الثواب فلِعِلْمِها بما أعدّه الله عزّ وجل للبكّائين على الحسين .
قال الصادق (عليه السلام) : ( مَن ذَكَرَنا أو ذُكِرْنَا عنده فخرج مِن عينِه مثل جناح البعوضة ، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ) .
وأمّا الرحمة التي أودعها الله في المؤمنين فمثل ما كان من النبي (صلى الله عليه و آله) على ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك عندما دخل رسول الله (صلى الله عليه و آله) ووَلَده إبراهيم يجود بنفسه قال : فجعلتْ عَيْنَا رسول الله (صلى الله عليه و آله) تذرفان ، فقال له عبد الرحمان بن عوف : وأنت يا رسول الله ، فقال : ( يا بن عوف إنّها رحمة ) . ثمّ أَتْبَعَهَا بأخرى . فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله) : ( إنّ العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربّنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) ، وبالجملة فزينب (عليها السلام) صبرت صبر الكرام على تلك المصائب العظام والنوائب الجسام .
فمِن عجيب صبرها وإخلاصها وثباتها ما نقله في : ( الطِرَاز المذهّب ) أنّها ـ سلام الله عليها وعلى أبيها وأُمّها وأخوَيْها ـ لمّا وقفتْ على جسد أخيها الحسين (عليه السلام) قالت : اللّهمّ تقبّل مِنّا هذا القليل مِن القربان ، قال : فقارنتْ أُمّها في الكرامات والصبر في النوائب بحيث خرقتْ العادات ولَحقتْ بالمعجزات .
قال المؤلّف النقدي أعلا الله مقامه :
فهذه الكلمات من هذه الحرّة الطاهرة ، في تلك الوقفة التي رأتْ بها أخاها العزيز بتلك الحالة المُفجِعة التي كانت فيها ، تكشف لنا قوّة إيمانها ورسوخ عقيدتها وفنائها في جنب الله تعالى ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل .
وقال عمر أبو النصر اللبناني في كتابه : الحسين بن علي ، المطبوع حديثاً :
وممّا يجب أنْ يُصار إلى ذِكْره في هذا الباب ما ظهر من زينب بنت فاطمة وأخت الحسين (عليه السلام) من جرأة وثبات جأش في موقفها هذا يوم المعركة ، وعند ابن زياد ، وفي قصر يزيد ، إلى آخر ما قال . ولله دَرّ الشاعر الخطيب السيد حسن بن السيد عباس البغدادي حيث يقول :
يا قلب زينب ما لاقيتَ مِن مِحَنٍ = فيكَ الرزايا وكلّ الصَبْر قد جُمِعَا
فلو كان ما فيك مِن صَبْر ومِن مِحَنٍ = في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانْصَدَعَا
يَكفيك صَبْراً قلوبُ الناس كلّهم = تفطّرتْ للذي لاقيتِهِ جَزَعَا
(http://ashaqalhussein.com/vb/search.php?do=finduser&u=5056&starteronly=1)