المساعد الشخصي الرقمي


مشاهدة النسخة كاملة : أسفار السيدة زينب ( عليها السلام ) *


دفئ القلوب
12-24-2011, 12:40 AM
أسفار السيدة زينب ( عليها السلام )*
الشيخ فرج آل عمران القطيفي
السَّفَر الأوّل :
( من المدينة إلى الكوفة مع أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) ) : لمّا هاجر إليها سافرتْ (عليها السلام) هذا السفر وهي في غاية العز ونهاية الجلالة والاحتشام ، يسير بها موكب فخم رهيب من مواكب المعالي والمجد ، ومحفوف بأُبَّهَةٍ الخلافة ، محاط بهيبة النبوة ، مشتمل على السكينة والوقار ، فيه أبوها الكرّار أمير المؤمنين (عليه السلام) وإخوتها الحسنان سيّدا شباب أهل الجنة ، وحامل الراية العظمى محمد بن الحنفية ، وقمر بني هاشم العبّاس بن علي (عليها السلام) ، وزوجها الجواد عبد الله بن جعفر ، وأبناء عمومتها عبد الله بن عبّاس وعبيد الله وأخوتهما ، وبقيّة أبناء جعفر الطيّار وعقيل بن أبي طالب ، وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وأتباعهم من رؤساء القبائل وسادات العرب ، مدجّجين بالسلاح ، غاصّين في الحديد ، والرايات ترفرف على رؤوسهم وتخفق على هاماتهم ، وهي في غبطة وفرح وسرور .
السَّفَر الثاني :
( من الكوفة إلى المدينة مع أخيها الحسن (عليه السلام) بعد صُلْحه مع معاوية ) : سافرتْ (عليها السلام) هذا السفر وهي أيضاً في موكب فخم في غاية العز والدلال والعظمة والإجلال ، تحوطها الأبطال من إخوتها وبني هاشم الكرام ، حتى وصلت إلى حرم جدّها الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله) ومسقط رأسها المدينة المنورة ، محترمة موقّرة .
السَّفَر الثالث :
( من المدينة إلى كربلاء مع أخيها الحسين ) : ويشتمل هذا السفر على نبذة من مصائبها وصبرها وإخلاصها وثباتها .
لمّا عزم الحسين (عليه السلام) على السفر من الحجاز إلى العراق ، استأذنتْ زينب زوجها عبد الله بن جعفر أنْ تُصاحب أخاها الحسين (عليه السلام) ، مضافاً إلى اشتراط أمير المؤمنين (عليه السلام) عليه في ضمن عقد النكاح أنْ لا يمنعها متى أرادتْ السفر مع أخيها الحسين (عليه السلام) ، فأَذِنَ لها وأمر ابنَيه عوناً ومحمداً بالمسير مع الحسين (عليه السلام) ، والملازمة في خدمته والجهاد دونه ، فسافرتْ (عليها السلام) في ذلك الموكب الحسيني المهيب ، في عزّ وجلال وحشمة ووقار ، تَحْمِلُها المحامل المُزَرْكَشَة المزيّنة بالحرير والديباج ، قد فُرشتْ بالفرش الممهّدة ووسِّدتْ بالوسائد المنضّدة ، تحت رعاية أخيها الحسين (عليه السلام) ، تحفّ بها الأبطال من عشيرتها ، وتكتنفها الأسود الضارية من إخوتها وأبناء إخوتها وعمومتها كأبي الفضل العبّاس ، وعلي الأكبر ، والقاسم بن الحسن ، وأبناء جعفر وعقيل ، وغيرهم من الهاشميين ، والعبيد والإماء طوع أمرها ورهن إشارتها ، ولكنّها (عليها السلام) سافرت هذه السفرة منقطعة من علائق الدنيا بأسرها في سبيل الله ، قد أعرضتْ عن زهرة الحياة من المال والبيت والزوج والولد والخدم والحشم ، وصحبتْ أخاها الحسين (عليه السلام) ، ناصرةً لدين الله وباذلةً النفس والنفيس لإمامها ابن بنت رسول الله ، مع علمها بجميع ما يجري عليها من المصائب والنوائب والمِحَن ، كما يدلّ عليه الحديث المروي في كتاب ( كامل الزيارات ) للشيخ الفقيه أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه طاب ثراه ، قال :
حدّثني أبو عيسى عبيد الله بن الفضل بن محمد بن هلال الطائي البصري ، قال : حدّثني أبو عثمان سعيد بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن سلام بن يسار الكوفي ، قال : حدّثني نوح بن دُرَّاج ، قال : حدّثني قُدامة بن زائدة عن أبيه ، قال : قال علي بن الحسين : ( بلغني يا زائدة أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أحياناً .
فقلتُ : إنّ ذلك لَكَمَا بلغك .
فقال لي : ولماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذِكْر فضائلنا والواجب على هذه الأُمّة مِن حقّنا ؟
فقلتُ : والله ، ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط ، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه .
فقال : والله ، إنّ ذلك لكذلك .
فقلتُ : والله ، إنّ ذلك لَكذلك ، يقولها ثلاثا وأقولها ثلاثاً .
فقال : أبشِر ثمّ أبشِر ثمّ أبشِر ، فلأُخبرنّك بخبر كان عندي في النخب المخزون ، فإنّه لمّا أصابنا في الطفّ ما أصابنا وقُتل أبي وقُتل مَن كان معه مِن وُلْده وإخوته وسائر أهله وحُمِلَتْ حَرَمُهُ ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة ، فجعلتُ أنظر إليهم صرعى ولم يوارَوا ، فعظم ذلك في صدري واشتدّ ـ لِمَا أرى منهم ـ قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيّنتْ ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي (عليها السلام) . فقالتْ : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي ؟ فقلتُ : وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي ووُلْد عمّي مضرّجين بدمائهم مرمّلين بالعراء مسلّبين ، لا يُكفَّنون ولا يُوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ولا يَقرُبُهم بشرٌ كأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر . فقالتْ : لا يجزعنّك ما ترى ، فوالله ، إنّ ذلك لَعهد من رسول الله (صلى الله عليه و آله) إلى جدّك وأبيك وعمّك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأُمّة لا تعرفهم ، فراعنة هذه الأُمّة ، وهم معروفون من أهل السماوات ، أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرّجة ، ويَنصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء ، لا يُدْرَس أثرُه ولا يعفو رسمُه على كرور الليالي والأيّام ، وليجهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في مَحْوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ علوّاً . فقلتُ : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟ فقالتْ : نعم ، حدّثتْني أُمّ أَيمن أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) زار منزل فاطمة (عليها السلام) في يوم من الأيّام ، فعملتْ له حريرة وأتاه عليٌّ بطبق فيه تمر ، ثمّ قالتْ أُمّ أَيمن : فأتَيْتُهم بعُسّ فيه لبن وزبد ، فأكل رسول الله (صلى الله عليه واله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين من تلك الحريرة ، وشرب رسول الله (صلى الله عليه و آله) وشربوا من ذلك اللبن ، ثمّ أكلوا وأكل من ذلك التمر والزبد ، ثمّ غسل رسول الله ( صلى الله عليه و آله) يده وعلي (عليه السلام) يصبّ عليه الماء ، فلمّا فرغ من غَسْل يده مسح وجهه ثمّ نظر إلى علي (عليه السلام) وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه ، وتوجّه نحو القبلة وبسط يديه ودعا ، ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج وجرتْ دموعُه ، ثمّ رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنّها صوب المطر ، فحزنتْ فاطمة (عليها السلام) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) وحزنتُ معهم لِمَا رأينا رسول الله (صلى الله عليه و آله) ، وهبنا أنْ نسأله ، حتى إذا طال ذلك قال له علي (عليه السلام) وقالتْ له فاطمة (عليها السلام) : ما يُبكيك يا رسول الله ؟ لا أبكى الله عينَيك ، فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك . فقال (صلى الله عليه و آله) : يا أخي سررتُ بكم .
وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هنا :
فقال : يا حبيبي سررتُ بكم سروراً ما سررتُ مثله قَط ، وإنّي لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عَلَيّ فيكم ، إذْ هبط عَلَيّ جبرائيل فقال : يا محمد ، إنّ الله تبارك وتعالى أطلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكْمَلَ لك النعمة وهنّاك العطيّة بأنْ جعلهم وذرّيّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة ، لا يُفرّق بينك وبينهم ، يُحبَّون كما تُحَب ويُعطَون كما تُعطي حتى ترضى ، وفوق الرضا على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملّتك ، ويزعمون أنّهم من أُمّتك ، براء من الله ومنك خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً ، شتّى مصارعهم ، نائية قبورهم ، خيرة من الله لهم ولك فيهم ، فاحمد الله عزّ وجل على خيرته وارْضَ بقضائه ، فحمدتُ الله ورضيتُ بقضائه بما اختاره لكم .
ثمّ قال لي جبرائيل : يا محمد ، إنّ أخاك مضطهَد بعدك ، مغلوب على أُمّتك ، معتوب من أعدائك ، ثمّ مقتول بعدك ، يقتله أشرّ الخليقة وأشقى البريّة ، يكون نظير عاقِر الناقة ببلدٍ تكون إليه هجرتُه وهو مغرَس شيعته وشيعة وُلْده ، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم ، وإنّ سبطك هذا وأََوْمَأَ بيده إلى الحسين (عليه السلام) مقتول في عصابة من ذرّيتك وأهل بيتك وأخيار من أُمّتك بضفّة الفرات بأرضٍ يُقال لها كربلاء ، مِن أجلها يَكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذرّيتك في اليوم الذي لا ينقضي كَرْبه ولا تفنى حسرتُه ، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة ، يُقتَل فيها سبطك وأهله ، وإنّها من بطحاء الجنّة ، فإذا كان اليوم الذي يُقتَل فيه سبطك وأهله ، وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة ، تزعزعتْ الأرض من أقطارها ، ومادتْ الجبال وكثر اضطرابها ، واصطفقتْ البحار بأمواجها ، وماجتْ السماوات بأهلها غضباً لك يا محمد ولذرّيتك ، واستهضاماً لِمَا يُنْتَهك من حرمتك ولِشَرّ ما تُكافئ به في ذرّيتك وعترتك ، ولا يبقى شيء من ذلك إلاّ استأذن الله عزّ وجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجّة الله على خلقه بعدك ، فيُوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومَن فيهنّ :
إنّي أنا الله الملك القادر الذي لا يفوته هارب ، ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام ، وعزّتي وجلالي لأُعَذِّبَنّ مَن وتر رسولي وصفِّيي وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته عذاباً لا أُعذّب به أحداً من العالمين ، فعند ذلك يضجّ كل شيء في السماوات والأرضين بِلَعْنِ مَن ظلم عترتك واستحلّ حرمتك .
فإذا برزتْ تلك العصابة إلى مضاجعها تولّى الله عزّ وجل قَبْض أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكةٌ من السماء السابعة ، معهم آنية من الياقوت والزمرّد ، مملوءة من ماء الحياة وحُلل مِن حُلل الجنّة وطيب من طيب الجنّة ، فغسّلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحُلل وحنّطوها بذلك الطيب ، وصلّتْ الملائكة صفّاً صفّاً عليهم ، ثمّ يبعث الله قوماً مِن أُمّتك لا يعرفهم الكفّار لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيّة ، فيوارون أجسادهم ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء يكون عَلَمَاً لأهل الحقّ وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ، وتحفّه ملائكة من كلّ سماء مئة ألف ملك في كل يوم وليلة ، ويصلّون عليه ، ويطوفون حوله ، ويسبّحون عنده ، ويستغفرون الله لِمَن زاره ، ويكتبون أسماء زائريه مِن أُمّتك ، متقرّبين إلى الله تعالى وإليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ، ويوسَمون في وجوههم بمَيْسَم نور عرش الله : هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء ، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم مِن أثر ذلك المَيْسم نور تغشى منه الأبصار يدلّ عليهم فيعرفونهم ، وكأنّي بك يا محمّد ، بيني وبين ميكائيل وعليٌّ أمامنا ، ومعنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عددهم ونحن نلتقط ذلك الموسوم في وجهه من بين الخلائق حتى ينجيهم الله مِن هول ذلك اليوم وشدائده ، وذلك حكم الله وعطاؤه لِمَنْ زار قبرك يا محمد ، أو قبر أخيك ، أو قبر سبطيك ، لا يريد به غير الله عزّ وجل ، ويجتهد أناس ممّن حقّتْ إليهم اللعنة من الله والسخط أنْ يعفو رَسْم ذلك القبر ويمحوا أثره ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً . ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه و آله) : فهذا أبكاني وأحزنني ) .
قالت زينب (عليها السلام) :
فلمّا ضرب ابنُ ملجم لعنه الله أبي (عليه السلام) ورأيتُ عليه أثر الموت ، دنوتُ منه وقلتُ له : يا أبتِ حدّثتْني أُمّ أيمن بكذا وكذا وقد أحببت أنْ أَسْمَعَه منك .
فقال : يا بنيّة ، الحديث كما حدّثتْكِ أُمّ أيمن ، وكأنّي بكِ وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، أذلاّء خاشعين ، تخافون أنْ يتخطّفكم الناس ، فصبراً صبراً فو الذي فَلَقَ الحبّة وَبَرَأَ النَسْمَة ، ما لله على ظهْر الأرض يومئذٍ وَلِيّ غير مُحبّيكم وشيعتكم ، ولقد قال لنا رسول الله (صلى الله عليه و آله) حين أخبرنا بهذا الخبر : إنّ إبليس لعنه الله في ذلك اليوم يطير فرحاً ، فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته ، فيقول : يا معاشر الشياطين ، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطَلِبَة ، وبلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورثناهم النار إلاّ مَن اعتصم بهذه العصابة ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم وحَمْلهم على عداوتهم وإغرائهم وأوليائهم ، حتّى تستحكموا ضلالة الخَلْق وكفرهم ، ولا ينجوا منهم ناجٍ ، ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه وهو كذوب أنّه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنباً غير الكبائر .
قال زائدة :
ثمّ قال علي بن الحسين بعد أنْ حدّثني بهذا الحديث : ( خذْه إليك ما لو ضربتَ في طَلَبِه آباط الإبل حَوْلاً لكان قليلاً ) ، ولكون زينب (عليها السلام) عالمة بجميع ما يجري عليها من المصائب والنوائب والمِحَن ، وأنّها على بصيرة من أمرها ، قابلتْ تلك الرزايا والفوادح بجميل الصبر وعظيم الاتّزان وقوّة الإيمان وكامل الإخلاص .
وإليك نبذة يسيرة من مصائبها العظيمة وفوادحها الكبرى :
فإنّها (عليها السلام) رأتْ من المصائب والنوائب ما لو نزلتْ على الجبال الراسيات لانْفسحتْ واندكّتْ جوانبها ، لكنّها في ذلك تصبر الصبر الجميل كما هو معلوم لكلّ مَن درس حياتها ، وأوّل مصيبة دهمتْها هو :
* فقْدها جدّها النبي (صلى الله عليه و آله) وما لاقى أهلها بعده من المكاره .
* ثمّ فقدها أُمّها الكريمة بنت رسول الله بعد مرض شديد وكدر من العيش والاعتكاف في بيت الأحزان .
* ثمّ فقدها أباها عليّاً وهو مضرّج بدمه من سيف ابن ملجم المرادي (لعنه الله) .
* ثمّ فقْدها أخاها المجتبى المسموم ، تنظر إليه وهو يتقيّأ كبدَه في الطشتْ قطعة قطعة ، وبعد موته (عليه السلام) تُرْشَق جنازته بالسهام .
* ثمّ رؤيتها أخاها الحسين (عليه السلام) تتقاذف به البلاد حتى نزل كربلاء ، وهناك دهمتْها الكوارث العِظَام مِن قَتْله (عليه السلام) وقَتْل بقيّة إخوتها وأولادهم وأولاد عمومتها وخواص الأُمّة من شيعة أبيها (عليه السلام) عطاشى .
* ثمّ المِحَن التي لاقتْها من هجوم أعداء الله على رَحْلِها ، وما فعلوه من سلب وسبي ونهب وإهانة وضرب لكرائم النبوة وودائع الرسالة ، وتكفّلها حال النساء والأطفال في ذلّة الأَسْر .
* ثمّ سيْرها معهم من بلد إلى بلد ومِن منزل إلى منزل ومِن مَجْلِس إلى مجلس .
وغير ذلك من الرزايا التي يَعجز عنها البيان ويَكِلّ اللسان ، وهي مع ذلك كلّه صابرة محتسبة ومفوّضة أمرها إلى الله ، قائمة بوظائف شاقّة مِن مداراة العيال ومراقبة الصغار واليتامى من أولاد إخوتها وأهل بيتها ، رابطة الجأش بإيمانها الثابت وعقيدتها الراسخة ، حتى أنّها كانت تسلّي إمام زمانها زين العابدين (عليه السلام) ، وأمّا ما كان يظهر منها بعض الأحيان من البكاء وغيره فذلك أيضاً كان لطلب الثواب أو للرحمة التي أودعها الله عزّ وجل في المؤمنين ، أمّا طلب الثواب فلِعِلْمِها بما أعدّه الله عزّ وجل للبكّائين على الحسين .
قال الصادق (عليه السلام) : ( مَن ذَكَرَنا أو ذُكِرْنَا عنده فخرج مِن عينِه مثل جناح البعوضة ، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ) .
وأمّا الرحمة التي أودعها الله في المؤمنين فمثل ما كان من النبي (صلى الله عليه و آله) على ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك عندما دخل رسول الله (صلى الله عليه و آله) ووَلَده إبراهيم يجود بنفسه قال : فجعلتْ عَيْنَا رسول الله (صلى الله عليه و آله) تذرفان ، فقال له عبد الرحمان بن عوف : وأنت يا رسول الله ، فقال : ( يا بن عوف إنّها رحمة ) . ثمّ أَتْبَعَهَا بأخرى . فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله) : ( إنّ العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربّنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) ، وبالجملة فزينب (عليها السلام) صبرت صبر الكرام على تلك المصائب العظام والنوائب الجسام .
فمِن عجيب صبرها وإخلاصها وثباتها ما نقله في : ( الطِرَاز المذهّب ) أنّها ـ سلام الله عليها وعلى أبيها وأُمّها وأخوَيْها ـ لمّا وقفتْ على جسد أخيها الحسين (عليه السلام) قالت : اللّهمّ تقبّل مِنّا هذا القليل مِن القربان ، قال : فقارنتْ أُمّها في الكرامات والصبر في النوائب بحيث خرقتْ العادات ولَحقتْ بالمعجزات .
قال المؤلّف النقدي أعلا الله مقامه :
فهذه الكلمات من هذه الحرّة الطاهرة ، في تلك الوقفة التي رأتْ بها أخاها العزيز بتلك الحالة المُفجِعة التي كانت فيها ، تكشف لنا قوّة إيمانها ورسوخ عقيدتها وفنائها في جنب الله تعالى ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل .
وقال عمر أبو النصر اللبناني في كتابه : الحسين بن علي ، المطبوع حديثاً :
وممّا يجب أنْ يُصار إلى ذِكْره في هذا الباب ما ظهر من زينب بنت فاطمة وأخت الحسين (عليه السلام) من جرأة وثبات جأش في موقفها هذا يوم المعركة ، وعند ابن زياد ، وفي قصر يزيد ، إلى آخر ما قال . ولله دَرّ الشاعر الخطيب السيد حسن بن السيد عباس البغدادي حيث يقول :
يا قلب زينب ما لاقيتَ مِن مِحَنٍ = فيكَ الرزايا وكلّ الصَبْر قد جُمِعَا
فلو كان ما فيك مِن صَبْر ومِن مِحَنٍ = في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانْصَدَعَا
يَكفيك صَبْراً قلوبُ الناس كلّهم = تفطّرتْ للذي لاقيتِهِ جَزَعَا


(http://ashaqalhussein.com/vb/search.php?do=finduser&u=5056&starteronly=1)

دفئ القلوب
12-24-2011, 12:42 AM
السَّفَر الرابع :
( من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام بعد قَتْل أخيها الحسين (عليه السلام) وأصحابه الأبرار تحت رعاية الظالمين ، ويشتمل هذا السفر على خطبتَيها البلغتَين في الكوفة وفي مجلس يزيد في الشام ) :
الإشارة إلى بلاغتها وشجاعتها : لمّا عزم ابن سعد على الرحيل من كربلاء ، أمر بحمل النساء والأطفال على أقتاب الجمال ، ومرّوا بهنّ على مصارع الشهداء ، فلمّا نَظَرْنَ النسوة إلى القتلى صِحْنَ وضَرَبْنَ وجوههنّ ، وفِيْهِنّ زينب بنت علي (عليهما السلام) تنادي بصوت حزين وقلب كئيب :
يا محمداه ، صلّى عليك مليك السماء ، هذا حسين مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، إلى الله المشتكى ، وإلى محمّد المصطفى ، وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيّد الشهداء ، يا محمداه ، هذا حسين بالعراء ، قتيل أولاد البغايا ، واحزناه واكُرْباه عليك يا أبا عبد الله ، اليوم مات جدّي رسول الله ، يا أصحاب محمداه ، هؤلاء ذرّيّة المصطفى يُساقون سَوق السبايا ، وهذا حسين محزوز الرأس مِن القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، بأبي مَن أضحى معسكره يوم الاثنين نهباً ، بأبي مَن فسطاطه مقطّع العُرَى ، بأبي مَن لا غائب فيُرْجَى ، ولا جريح فيُدَاوَى ، بأبي مَن نفسي له الفداء ، بأبي المهموم حتّى قضى ، بأبي العطشان حتّى مضى ، بأبي مَن شَيْبه يَقطر بالدماء ، بأبي مَن جدّه محمد المصطفى ، بأبي مَن جدّه رسول إله السماء ، بأبي مَن هو سبط نبي الهدى ، بأبي محمّد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي علي المرتضى ، بأبي فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، بأبي مَن ردّتْ له الشمس حتى صلّى . فأبكتْ والله كلّ عدو وصديق .
ولله دَرّ الشاعر حيث يقول :
والطُهْر زينب تستغيث بِندْبِهَا = غرقتْ بفيضِ دموعِها وَجَنَاتِها
رَقّتْ لِعظْمِ مصابها أعداؤها = ومِن الرزيّة أنْ تَرِقَّ عِدَاتُها
ثمّ إنّها (عليها السلام) سافرتْ هذا السفر المحزن وهي حزينة القلب كسيرة الخاطر باكية العين ناحلة الجسم مرتعدة الأعضاء ، قد فارقتْ أعزّ الناس عليها وأحبّهم إليها ، تحفّ بها النساء الأرامل والأيامى الثواكل ، وأطفال يستغيثون من الجوع والعطش ، ويحيط بها القوم اللِئَام من قتلة أهل بيتها وظالمي أهلها وناهبي رَحْلِها ، كـ :
شمر بن ذي الجوشن ، وزجر بن قيس ، وسنان بن أنس ، وخولي بن زيد الأصبحي ، وحرملة بن كاهل ، وحجار بن أبي أبحر ، وأمثالهم لعنهم الله ، ممّن لم يخلق الله في قلوبهم الرحمة ، إذا دمعتْ عيناها أهوتْ عليها السياط ، وإنْ بكتْ أخاها لطمتْها الأيدي القاسية ، وهكذا كان سفرها هذا .
ولقد تواترتْ الروايات عن العلماء وأرباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير ، قال :
قدمتُ الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستين عند مُنْصَرف علي بن الحسين (عليهما السلام) [ ومعه النساء والأطفال ] من كربلاء ، ومعهم الأجناد يحيطون بهم ، وقد خرج الناس للنظر إليهم ، فلمّا أقبلوا بهم على الجمال بغير وِطاء وجعلنَ نساء الكوفة يبكينَ وينشدنَ ، فسمعتُ عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) يقول بصوت ضئيل وقد نهكتْه العلّة وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه : ( إنّ هؤلاء النسوة يبكينَ ، فمَنْ قَتَلَنَا ؟ ) .
قال : ورأيتُ زينب بنت علي (عليهما السلام) ولم أَرَ خَفِرَة أَنْطَق منها كأنّها تُفرِغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال : وقد أَوْمأَتْ إلى الناس أنْ اسكتوا ، فقالت (عليها السلام) :
الحمد لله والصلاة على محمد وآله الطيبين الأخيار ، أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر ، أتبكون ؟! فلا رَقَأتْ الدمعة ولا هدأتْ الرَنّة ، إنّما مَثَلُكُم كَمَثَلِ التي نقضتْ غَزْلَهَا مِن بَعْد قوّة أنْكَاثَاً ، تتّخِذونَ أَيْمَانَكم دَخَلاً بَيْنَكم ، أَلاَ وهل فيكم إلاّ الصَلِف النَطِف ، والصَدْر الشَنِف ، ومَلَقُ الإماء ، وغَمْز الأعداء ، أو كمرعى على دِمْنَةٍ أو كَفِضّةِ على مَلْحُودَةٍ ، أَلاَ ساءَ ما قدَمتْ لكم أنفسُكم أنْ سَخطَ الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون ، أَتَبْكون وتَنْتَحِبون ؟ إي والله ، فابْكُوا كثيراً واضْحَكُوا قليلاً ، فَلَقد ذهبتُم بِعَارِها وشَنَارِها ولَنْ ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قَتْل سليل خاتم النبوّة ومَعْدِن الرسالة وسيّد شباب أهل الجنّة وملاذ حيرتكم ومَفزَع نازلتِكم ومَنَار حجّتكم ومدره سنّتكم ؟ أَلاَ ساءَ ما تَزِرون ، وبُعْدَاً لكم وسُحْقَاً ، فَلَقَد خابَ السَعْي ، وتبّتْ الأيدي ، وخَسِرَتْ الصفقة ، وبِئْتُم بغضب من الله وضُرِبَتْ عليكم الذلّة والمسكنة ، ويْلَكُم يا أهل الكوفة ، أَتَدْرُونَ أيَّ كَبِدٍ لرسولِ اللهِ (صلى الله عليه و آله) فَرَيْتُم ، أيَّ دَمٍ له سفكتُم ، وأَيّ حُرْمَةٍ له انتهكتُم ، ولقد جِئْتُم بها صلعاء عَنْقَاء ، سوداء ، فقماء ، خَرْقَاء ، شوهاء ، كطلاع الأرض ، أو ملأ السماء ، أَفَعَجِبْتُم أنْ مَطَرَتِ السَماءُ دَمَاً ، ولَعَذابُ الآخرةِ أَخْزَى وأنتم لا تُنْصَرون ، فلا يَسْتَخِفَّنّكُم المهل ، فإنّه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثار ، وإنّ ربّكم لَبِالمِرْصَاد .
قال الراوي : فو الله لقد رأيتُ الناس يومئذ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم ، ورأيتُ شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلّتْ لحيته بالدموع ، وهو يقول : بأبي أنتم وأُمّي : كهولكم خيرُ الكهول ، وشبابُكم خيرُ الشباب ، ونساؤكم خيرُ النساء ، ونَسْلُكم خيرُ نسل ، لا يُخزى ولا يُبزى .
قال المؤلّف النقدي أعلا الله مقامه ، أقول : وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب أخذه العجبُ من فصاحة زينب وبلاغتها ، وأخذتْه الدهشة من براعتها وشجاعتها الأدبيّة ، حتى أنّه لم يتمكّن أنْ يشبّهها إلاّ بأبيها سيّد البلغاء ، فقال : كأنّها تُفرِغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) .
وهذه الخطبة رواها كلُّ مَن كتب في وقعة الطف ، أو في أحوال الحسين (عليه السلام) ، ورواها :
* الجاحظ في كتابه ( البيان والتبيين ) عن خزيمة الأسدي ، قال : ورأيتُ نساء الكوفة يومئذ قياماً يندبْنَ مهتكات الجيوب .
* ورواها أيضاً أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر بن طيفور في ( بلاغات النساء ) .
* وأبو المؤيّد الموفّق بن أحمد الخوارزمي في الجزء الثاني من كتابه ( مقتل الحسين ) .
* وشيخ الطائفة في أَمَالِيْه ، وغيرهم من أكابر العلماء .
ومِن بلاغتها وشجاعتها الأدبيّة ما ظهر منها (عليها السلام) في مجلس ابن زياد :
قال السيد ابن طاووس وغيرهم وممّن كتب في مقتل الحسين (عليه السلام) : إنّ ابن زياد (لعنه الله) جلس في القصر وأَذِنَ للناس إذنَاً عامّاً ، وجِئَ برأس الحسين (عليه السلام) فوُضع بين يديه ، وأُدْخِلَتْ عليه نساء الحسين (عليه السلام) وصبيانه ، وجاءتْ زينب بنت علي (عليهما السلام) وجلستْ متنكّرة ، فسأل ابن زياد (لعنه الله) : مَن هذه المتنكرة ؟
فقيل له : هذه زينب ابنة علي (عليهما السلام) .
فأقبل عليها فقال : الحمد لله الذي فضحكم وأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكم .
فقالتْ (عليها السلام) : إنّما يُفْتَضَحُ الفَاجِرُ ويُكَذَّبُ الفَاسِقُ وهو غَيْرُنا .
فقال : كيفَ رأيتِ صُنْعَ اللهِ بأخِيْكِ وأهل بيته ؟
فقالتْ : ما رأيتُ إلاّ خيراً ، هؤلاء قومٌ كتب اللهُ عليهم القَتْل فبَرَزُوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينَكَ وبينَهُم فَتُحَاجّ وتُخَاصَم ، فانْظُرْ لِمَنْ الفَلَج يَومئذٍ ، ثَكَلَتْكَ أُمُّك يا بن مرجانة .
فغضب اللعين وَهَمّ أنْ يضربها ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة والمرأة لا تُؤاخَذ بشيء مِن مَنْطِقِهَا ، فقال لها ابن زياد (لعنه الله) : لقد شفى الله قلبِي مِن طَاغِيَتِكِ الحسين والعصاة المَرَدَة مِن أهل بيتكِ .
فقالتْ : لَعمري ، لقد قَتَلْتَ كَهْلِي وقَطَعْتَ فَرْعِي واجْتَثَثْتَ أَصْلِي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فَلَقَد اشْتَفَيْتَ .
فقال (لعنه الله) : هذه سَجّاعة ، ولعمري ، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعِرَاً .
فقالتْ : يا بن زياد ، ما للمرأة والسجاعة ، وإنّ لِي عن السَجَاعَةِ لَشُغْلاً .
وفي ( لواعج الأشجان ) للسيّد محسن الأمين ( أعلا الله مقامه ) :
وكتب ابن زياد إلى يزيد يُخْبره بقتل الحسين (عليه السلام) وخبر أهل بيته . وساق الحديث إلى أنْ قال : وأمّا يزيد فإنّه لمّا وصله كتاب ابن زياد أجابه عليه يأمره بحمل رأس الحسين (عليه السلام) ورؤوس مَن قُتل معه ، وحَمْل أثقاله ونسائه وعياله ، فأرسل ابن زياد الرؤوس مع زَجْر بن قيس ، وأَنْفَدَ معه أبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة إلى يزيد ، ثمّ أمر ابن زياد بنساء الحسن (عليه السلام) وصبيانه فجهزوا ، وأمر بعليّ بن الحسين فَغُلّ بِغُلٍّ إلى عنقه ، وفي رواية في يديه ورقبته ، ثمّ سرح بهم في إثر الرؤوس مع محفر بن ثعلبة العائدي وشمر بن ذي الجوشن ، وحملوهم على الأقتاب وساروا بهم كما يُسار بسبايا الكفّار ، فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرؤوس ، فلم يكلّم علي بن الحسن (عليهما السلام) أحداً منهم في الطريق بكلمة حتى بلغوا الشام ، فلمّا انتهوا إلى باب يزيد رفع محفر بن ثعلبة صوته فقال : هذا محفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة ، فأجابه علي بن الحسين (عليهما السلام) : ( ما ولدت أم محفر أشر وألام )

دفئ القلوب
12-24-2011, 12:46 AM
وعن الزهري أنّه لمّا جاءت الرؤوس كان يزيد (لعنه الله) على منظرة جيرون فأنشد لنفسه :
لمّا بدتْ تلك الحمول وأشرقتْ = تلك الشموس على رُبَى جيرون
نَعَبَ الغُرَابُ فقلتُ صِحْ أَوْ لا تَصِح = فَلَقَد قَضَيْتُ مِن النبيِّ دُيُونِي
قال السيد ابن طاووس ، قال الراوي : ثمّ أُدخل ثِقْل الحسين (عليه السلام) ونساؤه ومَن تخلّف من أهل بيته على يزيد بن معاوية وهم مقرّنون في الحِبَال ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال قال له علي بن الحسين : ( أُناشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلى الله عليه و آله) لو رآنا على هذه الصفة ؟ ) ، فأمر يزيد بالحبال فقُطِّعتْ ، ثمّ وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه ، وأجلس النساء خلفه لئلاّ ينظرْنَ إليه ، فرآه علي بن الحسين (عليهما السلام) فلم يأكل بعد ذلك أبداً ، وأمّا زينب فإنّها لمّا رأتْه أهوتْ إلى جيبها فشقّتْه ، ثمّ نادتْ بصوتٍ حزين يُقْرِح القلوب : يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا بن مكّة ومِنَى ، يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، يا بن بنت المصطفى . قال الراوي : فأبكت والله كل من كان في المجلس ويزيد ساكت .
قال السيد ابن طاووس : ثمّ دعا يزيد بقضيب خيزران فجعل ينكتُ به ثنايا الحسين (عليه السلام) ، فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال : ويحك يا يزيد ، أَتَنْكُثُ بقضيبك ثَغْرَ الحسين (عليه السلام) ، ابن فاطمة (عليها السلام) ، أشهد لقد رأيتُ النبيّ (صلى الله عليه و آله) يرشِفُ ثناياه وثنايا أخيه الحسن (عليه السلام) ويقول : ( أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة ، فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعد له جهنّم وساءتْ مصيراً ) . قال الراوي : فغضب يزيد وأمر بإخراجه فأُخرج سَحْبَاً ، قال : وجعل يزيد يتمثّل بأبيات ابن الزبعرى :
لَيتَ أَشياخي بِبَدرٍ شَهِدوا = جَزَعَ الخَزرجِ مِن وَقعَ الأَسَل
لأَهَلُّوا واسْتَهَلُّوا فَرَحَاً = ثُمّ قَالُوا يا يزيد لا تُشَل
قَدْ قَتَلْنَا القَرْمَ مِن سَادَاتِهِم = وَعَدَلْنَاه بِبَدْرٍ فَاعْتَدَل
لَعِبَتْ هَاشِمُ بِالْمُلْكِ فَلا = خَبَرٌ جَاءَ وَلاَ وَحْيٌ نَزَل
لست مِن خِنْدِف إنْ لَمْ أَنْتَقِمْ = مِنْ بَنِي أَحْمَد مَا كانَ فَعَل
خطبة زينب (عليها السلام) في مجلس يزيد في الشام : قال الراوي : فقامتْ زينب بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالتْ :
الحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه كذلك يقول : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَآءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (1) ، أظننتَ يا يزيد ـ حيث أَخَذْتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نُسَاق كما تُسَاق الأُسراء ـ أنّ بنا هواناً على الله ، وبك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ، فَشَمِخْتَ بأنْفِكَ ، ونظرتَ في عطفك جذلان مسروراً حيث رأيتَ الدنيا لك مُسْتَوْسِقَة ، والأمور مُتّسِقَة ، وحين صفا لك مُلْكُنا وسلطاننا ، فَمَهلاً مهلاً ، أَنَسِيْتَ قَوْل الله تعالى : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (2) .
أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء ، تَخْدِيْرك حرائرك وإِمَائِك ، وسَوْقك بنات رسول الله (صلى الله عليه و آله) سبايا ، قد هتكتَ ستورهن ، وأَبديْتَ وجوههنّ ، تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهنّ أهلُ المناهِل والمناقِل ، ويتصفّح وجوههنّ القريبُ والبعيدُ والدنيُّ والشريف ، ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ ولا مِن حُماتهنّ حَمِي ؟ وكيف ترتجي مراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبتُ لحمه من دماء الشهداء ؟ وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشَنَفِ والشَنَآن ، والإحَن والأضغان ؟ ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم :
لأَهَلُّوا واسْتَهَلُّوا فَرَحَاً = ثُمّ قَالُوا يا يزيد لا تُشَل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله (عليه السلام) سيد شباب أهل الجنّة تنكثها بِمِخْصَرَتِكَ ، وكيف لا تقول ذلك ! وقد نكأتَ القرحة واستأصلتَ الشَأْفَة بإراقتِكَ دماء ذرّيّة محمّد (صلى الله عليه و آله) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، وتهتفُ بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم ، فَلَتَرِدَنّ وَشِيْكَاً موردهم ، ولتَوُدَنّ أنّك شُلِلْتَ وبُكِمْتَ ولم تكنْ قلتَ ما قلتَ وفعلتَ ما فعلتَ ، اللّهمّ خُذْ بحقّنا وانتقِمْ مِن ظالمنا ، واحْلُلْ غضبَكَ مِمَّن سَفَكَ دِمَاءَنَا وقَتَل حُمَاتنا ، فو الله ما فَرَيْتَ إلاّ جِلْدَكَ ، ولا حَزَزْتَ إلاّ لَحْمَكَ ، ولتَرِدَنّ على رسول الله (صلى الله عليه و آله) ممّا تحمّلتَ مِن سَفْكِ دِمَاء ذرّيّته ، وانتهكتَ مِن حرمته في عترته ولُحْمَتِهِ ، حيث يجمع الله شَمْلَهم ويَلُمّ شَعَثَهم ويأخذ بحقّهم ، ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (3) وحسبك الله حاكماً وبمحمّد (صلى الله عليه و آله) خصيماً وبجبرائيل ظهيراً ، وسيعلم مَن سوّلَ لك ومكّنكَ من رقاب المسلمين ، وبئس للظالمين بَدَلاً ، وأيّكم شَرٌ مكانَاً وأضعف جُنْدَاً ، ولئنْ جرّتْ عَلَيّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَك ، وأسْتَعْظِمُ تَقْرِيْعَكَ ، وأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيْخَكَ ، لكنّ العيون عَبْرَى والصدور حَرّى ، أَلاَ فالعَجَب كلّ العَجَب لقَتْلِ حزب الله النُجَبَاء بحزب الشيطان الطُلَقَاء ، فهذه الأيدي تنطفُ من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجُثَث الطواهر الزواكي تَنْتَابها العواسِل وتعفّرها أُمَهات الفراعِل ، ولئنْ اتَخذْتَنَا مَغْنَمَاً لتجدنا وَشِيْكَاً مَغْرَمَاً ، حين لا تجد إلاّ ما قدّمتْ يداك ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (4) فإلى الله المشتكى وعليه المعوّلُ ، فَكِدْ كَيْدَك واسْعَ سَعْيَكَ ونَاصِبْ جُهْدَكَ ، فو الله لا تَمْحُو ذِكْرَنَا ولا تُمِيْتُ وَحْيَنَا ولا تُدْرِكُ أَمَدَنَا ولا تَدْحَضُ عَنْكَ عَارِهَا ، وهل رأيُك إلاّ فَنَد وأَيّامُكَ إلاّ عَدَد وجَمْعُكَ إلاّ بَدَد ، يوم ينادي المنادي : أَلاَ لعنةُ الله على الظالمين ، فالحمد لله ربّ العالمين الذي ختم لأوَّلِنَا بالسعادة والمَغْفِرَة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أنْ يكمل لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل .
فقال يزيد :
يا صيحةً تُحْمَدُ مِن صَوَائِحِ = مَا أَهْونَ المَوْت على النَوَائِحِ
قال المؤلّف النقدي ( أعلا الله مقامه ) :
إنّ بلاغة زينب وشجاعتها الأدبية ليست من الأمور الخفيّة ، وقد اعترف بها كلّ مَن كتب في وقعة كربلاء ، ونوّه بجلالتها أكثر أرباب التاريخ ، ولعمري إنّ من كان أبوها علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي ملأت خطبه العالم وتصدى لجمعها وتدوينها أكابر العلماء ، وأُمّها فاطمة الزهراء صاحبة خطبة ( فدك الكبرى ) وصاحبة ( الخطبة الصغرى ) التي ألقتْها على مسامع نساء قريش ، ونقلتها النساء لرجالهنّ ، نعم إنّ مَن كانت كذلك فَحَرِيّة بأنْ تكون بهذه الفصاحة والبلاغة ، وأنْ تكون لها هذه الشجاعة الأدبية والجسارة العلوية ، ويزيد الطاغية يوم ذاك هو السلطان الأعظم والخليفة الظاهري على عامّة بلاد الإسلام ، تؤدّي له الجِزْيَة الأُمَمُ المختلفة والأُمَمُ المتباينة في مجلسه ، الذي أظهر فيه أُبَّهَةَ الملك ومَلأَهُ بهيبة السلطان ، وقد جُرِّدتْ على رأسه السيوف ، واصطفّتْ حوله الجلاوزة ، وهو وأتباعه على كراسيّ الذهب والفضّة وتحت أرجلهم الفرش من الديباج والحرير ، وهي صلوات الله عليها في ذلّة الأَسْر ، دامية القلب باكية الطرف ، حَرّى الفؤاد من تلك الذكريات المؤلِمة والكوارث القاتلة ، قد أحاط بها أعداؤها من كلّ جهة ، ودار عليها حُسّادها مِن كلّ صوب ، ومع ذلك كلّه ترمز للحقّ بالحق ، وللفضيلة بالفضيلة ، فتقول ليزيد غير مكترثة بهيبةِ ملكه ولا معتنية بأُبّهة سلطانه : أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء .
وتقول له أيضاً :
ولئنْ جرّتْ عَلَيّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَك ، وأسْتَعْظِمُ تَقْرِيْعَكَ ، وأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيْخَكَ .
فهذا الموقف الرهيب الذي وقفتْ به هذه السيدة الطاهرة مثّل الحقّ تمثيلاً ، وأضاء إلى الحقيقة لطُلاّبها سبيلاً ، أَفْحَمَتْ يزيد ومَن حواه مجلِسُهُ المشؤوم بذلك الأسلوب العالي من البلاغة ، وأَبْهَتَتْ العارفين منهم بما أخذتْ به مجامع قلوبهم من الفصاحة ، فخرِسَتْ الأَلْسُن وكُمّتْ الأفواه وصُمّتْ الآذان ، وكهربتْ تلك النفس النورانيةُ تلك النفوسَ الخبيثةَ الرذيلة مِن يزيد وأتباعه بكهرباء الحقّ والفضيلة ، حتى بلغ به الحال أنّه صبر على تكفيره وتكفير أتباعه ، ولم يتمكّن مِن أنْ يَنْبِس بِبِنْتِ شِفَة ليقطع كلامها أو يمنعها من الاستمرار في خطابتها ، وهذا هو التصرّف الذي يتصرّف به أرباب الولاية متى شاءوا وأرادوا بمعونة الباري تعالى لهم ، وإعطائهم القدرة على ذلك .
وما أبدع ما قاله الشاعر الجليل السيد مهدي ابن السيد داود الحلّي عمّ الشاعر الشهير السيد حيدر رحمهما الله في وصف فصاحتها وبلاغتها من قصيدة :
قد أسروا مَن خَصّها بآيةِ = التطهيرِ ربّ العرشِ في كتابهِ
إنْ ألبستْ في الأَسْرِ ثَوْبَ ذُلَّةٍ = تَجَمَّلَتْ للعزِّ في أَثْوَابِهِ
ما خَطَبَتْ إلاّ رَأَوْا لِسَانَهَا = أَمْضَى مِن الصِمْصَامِ فِي خِطَابِهِ
وجَلْبَبَتْ فِي أَسْرِهَا آسِرَهَا = عَارَاً رَأَى الصِغَار فِي جِلْبَابِه
والفصحاءُ شاهدوا كلامَها = مقال خَيْرَ الرُسْلِ في صَوَابِهِ
ومِن شجاعتها الأدبية في مجلس يزيد ما نقله أرباب المقاتل وغيرهم من رواة الأخبار :
إنّ يزيد دعا بنساء أهل البيت والصبيان فأُجْلِسُوا بين يديه في مجلسه المشؤوم ، فنظر شاميٌّ إلى فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) فقام إلى يزيد وقال : يا أمير المؤمنين ، هَبْ لي هذه الجارية تكون خادمة عندي ؟
قالت فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) : فارتعدت فرائصي ، وظننتُ أنّ ذلك جائز لهم ، فأخذتُ بثياب عَمّتي زينب ، فقلتُ : عمّتاه أُوْتِمْتُ وأُسْتَخْدَم ؟
فقالتْ عمّتي للشاميّ : كذِبْتَ والله ولَؤُمْتَ ، ما جعل الله ذلك لك ولا لأميرك .
فغضب يزيد وقال : كَذِبْتِ والله ، إنّ ذلك لي ولو شئتُ لَفعلتُ .
قالتْ : كلاّ والله ، ما جعل ذلك لك إلاّ أنْ تَخرِج مِن مِلّتِنَا وتدين بغير ديننا .
فاستطار يزيد غضباً وقال : إيّاي تستقبلين بهذا الكلام ، إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك .
فقالتْ زينب : بدين أبي وأخي اهتديتَ أنت وأبوك إنْ كنتَ مسلماً .
قال : كَذِبْتِ يا عدوّة الله .
قالتْ : يا يزيد ، أنت أمير تشتمُ ظالماً وتقهر بسلطانك ، فكأنّه استحى وسكتَ فأعاد الشامي كلامه هَبْ لي هذه الجارية ، فقال له يزيد : أسكتْ ، وَهَبَ الله لك حَتْفَاً قاضِيَاً .
وروى السيد ابن طاووس في اللهوف هذه الرواية كما يأتي :
قال : نظر رجل من أهل الشام إلى فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) فقال : يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية .
فقالتْ فاطمة لعمّتها زينب (عليها السلام) : أُوْتِمْتُ وأُسْتَخْدَمُ ؟
فقالت زينب (عليها السلام) : لا ، ولا كرامة لهذا الفاسق ، فقال الشامي : مَن هذه الجارية ؟ فقال يزيد : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب .
فقال الشامي : الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب ؟
قال : نعم .
فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، أَتقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته ، والله ما توهّمتُ إلاّ أنّهم سَبْي الروم ، فقال يزيد : لأُلْحِقَنَّكَ بهم ، ثمّ أمر به فضُرِبَتْ عنقه . والذي يظهر أنّ هاتَين القضيّتين كلتيهما وقعتا في ذلك المجلس المشؤوم .
قال السيد محسن الأمين في لواعجه : ثمّ دخلتْ نساء الحسين (عليه السلام) وبناته على يزيد فقمْنَ إليهنّ وصِحْنَ وبَكِيْنَ وأَقَمْنَ المَآتِم على الحسين (عليه السلام) ، ثمّ أمر لهم يزيد بِدَارٍ تتّصِلُ بداره ، وقيل أَمَرَ بهم إلى منزل لا يكنّهم مِن حَرٍّ ولا بَرْدٍ ، فأقاموا فيه حتى تقشّرتْ وجوههم ، وكانوا مدّة مقامهم في الشام ينوحون على الحسين (عليه السلام) .
السَّفَر الخامس :
( من الشام إلى كربلاء ، ومن كربلاء إلى المدينة في رعاية النعمان بن بشير وأصحابه ، وقد أمرهم يزيد بالرِفْق بنساء الحسين (عليه السلام) ) :
قال المفيد في ( الإرشاد ) : ندب يزيد النعمان بن بشير ، وقال له : تجهّز لتخرج بهؤلاء النسوة إلى المدينة ، وأنقذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولاً تقدّم إليه أنْ يسير بهم في الليل ، ويكونوا أمامه حيث لا يفوتون طرفه ، فإذا نزلوا انتحى عنهم وتفرّق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم ، وينزل منهم بحيث إنْ أراد إنسان من جماعتهم وضوءاً أو قضاء حاجة لم يَحْتَشِم ، فسار معهم في حملة النعمان ، ولم يزل ينازلهم في الطريق ويرفق بهم كما وصّاه يزيد حتى دخلوا المدينة .
وقال السيد ابن طاووس : لمّا بلغوا العراق قالوا للدليل : مُرْ بنا على طريق كربلاء ، فوصلوا إلى موضع المصرَع ، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري ( رحمه الله ) وجماعة من بني هاشم ورِجالاً مِن آل الرسول (صلى الله عليه و آله) قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) فتوافوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد ، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد فأقاموا على ذلك أَيّامَاً ، قال : ثمّ انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة ، قال بشر بن حذلم : فلمّا قربنا منها نزل علي بن الحسين (عليهما السلام) فحطّ رَحْلَه وضرب فِسْطَاطَه وأنزل نساءه ، وقال : ( يا بِشْر ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟ فقلتُ : بلى يا بن رسول الله ، إنّي لشاعر ، فقال (عليه السلام) : ادْخُل المدينة وانْعَ أبا عبد الله (عليه السلام) ) ، قال بشر : فركبتُ فرسي وركضتُ حتى دخلتُ المدينة ، فلمّا بلغتُ مسجد النبي (صلى الله عليه و آله) رفعتُ صوتي بالبكاء وأنشأتُ أقول :
يا أهلَ يثربَ لا مقام لكمْ بها = قُتِلَ الحسين فأدْمُعِي مِدْرَارُ
الجِسْمُ مِنْهُ بكربلاء مُضَرّجٌ = وَالرَأْسُ مِنْهُ عَلَى القَنَاةُ يُدَارُ
قال : ثمّ قلتُ هذا علي بن الحسين (عليهما السلام) مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه ، قال : فما بَقِيَتْ في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ بَرَزْنَ مِن خُدورِهِنَّ مكشوفة شعورهنّ ، مخمّشة وجوههنّ ، مضروبة خدودهنّ ، يدعون بالويل والثبور ، فلم أَرَ باكياً وباكية أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً مَرّ على المسلمين مثله .
وقال أبو مخنف في مقتله نظير ما نقله السيد ابن طاووس ، ثمّ قام السجّاد (عليه السلام) يمشي إلى أنْ دخل المدينة ، فلمّا دخلها زار جدّه رسول الله (صلى الله عليه و آله) ، ثمّ دخل منزله . وفي ( المنتخب ) : وأمام أُمّ كلثوم ، فَحِيْنَ توجهتْ إلى المدينة جعلتْ تبكي وتقول :
مدينةَ جَدِّنَا لا تَقْبَلِيْنَا = فَبِالحَسَرَاتِ والأَحْزَانِ جِيْنَا
خَرَجْنَا مِنْكِ بِالأَهْلِيْنَ جَمْعَاً = رَجِعْنَا لاَ رِجَال وَلا بَنِيْنَا
وَكُنَّا فِي الخُرُوْجِ بِجَمْعِ شَمْلٍ = رَجِعْنَا حَاسِرِيْنَ مُسَلّبِيْنَا
وَكُنَّا فِي أَمانِ اللهِ جَهْرَاً = رَجِعْنَا بِالقَطِيْعَةِ خَائِفِيْنَا
وَمولانا الحسينُ لَنَا أَنِيْسٌ = رَجِعْنَا وَالحُسَيْن بِهِ رَهِيْنَا
فنحنُ الضَائِعَاتُ بِلاَ كَفيلٍ = ونحنُ النائحاتُ على أَخِيْنَا
ونحنُ السائراتُ على المَطَايَا = نُشَالُ على جِمَالٍ المُبْغِضِيْنَا
ونحنُ بناتُ يس وطه = ونحنُ الباكياتُ على أَبِيْنَا
ونحنُ الطاهراتُ بلا خفاءٍ = ونحنُ المُصْطَفُونَ المُخْلَصُوْنَا
ونحنُ الصابراتُ على البلايا = ونحنُ الصادقونَ النَاصِحُوْنَا
أَلاَ يَا جَدّنا قَتَلُوا حُسَيْنَاً = وَلَم يَرْعَوا جَنَابَ اللهِ فِيْنَا
أَلاَ يَا جَدَّنَا بَلغتْ عِدَانَا = مُنَاهَا واشْتَفَى الأعداءُ فِيْنَا
لقد هَتَكُوا النساءَ وحَمَّلُوْهَا = على الأقتاب قَهْرَاً أَجْمَعِيْنَا
وزينبَ أَخْرَجُوْهَا مِن خِبَاهَا = وفَاطِم واله تُبْدِي الأَنِيْنَا
سكينةُ تَشتكي مِن حَرِّ وَجْدٍ = تُنَادِي الغَوْث رَبّ العَالَمِيْنَا
والقصيدة تركناها خوف الإطالة .
قال الراوي : وأمّا زينب (عليها السلام) فأخذت بعضادَتَي باب المسجد ونادتْ : يا جدّاه ، إنّي ناعية إليك أخي الحسين (عليه السلام) ، وهي مع ذلك لا تجفّ لها عَبرة ولا تَفْتَر مِن البكاء والنحيب ، وكلّما نظرتْ إلى علي بن الحسين (عليها السلام) تَجَدَّد حزنها وزاد وَجْدُها .
أقول : وكأنّي بها (عليها السلام) بعد أخيها الحسين (عليه السلام) لا زالت باكية العين حزينة القلب مُنْهَدّة الركن من المصيبة ، وكأنّي بلسان حالها يقول :
يا غائباً عَن أهلِهِ أَتَعودُ أَمْ = تَبقى إلى يوم المِعَادِ مُغَيَّبَا
يا ليتَ غائبَنَا يعودُ لأَهْلِهِ = فنقول أهلاً بالحبيبِ ومَرحَبَا
لو كان مجروحاً لَعُولِجَ جَرْحُهُ = كيف العلاج ونور بهجتِهِ خَبَا