الأقرع
11-28-2014, 11:07 AM
الواقع يفرض نفسه أحيانا
عبدالعزيز شاب بسيط كمعظم الشباب من أبناء جيله لديه مع بعض أصدقاءه "شقة" يجلسون فيها ويستريحون يستمتعون ويهزئون من الجميع بداخلها إذ أصبحت كملجأ ومخبئا لهم يبتعدون فيها عن الشارع ومشاكله والمنزل وهمومه .
تصرمت سنين من حياتهم والشقة تخلد ذكرياتهم وأيامهم التي مرت عليهم وغيرت بعضهم .. وعبدالعزيز تزوج بعد كُتب له دخول بيت الأفراح وقفص الزوجية بالرغم من أنه كان أكثر رفاقه سهرا وجلوسا في الشقة .. كانوا أصدقاءه سعداء بزواجه بشدة رغم أنهم أفتقدوا وجوده بينهم .. إذ مر شهرا وشهرين وهو منقطعا عنهم لا يأتي لزيارتهم الا قليلا جدا مما أغضب رفاقه الذين أخذوا يصفونه بأنه أسيرا لزوجته وتقوده كما تقاد النعاج .
ولكثر العتب الذي لقيه منهم ومعايرتهم له بأن زواجه غيره وقلب كيانه وأنساه أصدقاء عشرته وطفولته .. لم يتركوه وشأنه ظلوا يسخرون منه لضعفه أمام نصفه الآخر ومن جُعلت مسكنا له .. كانوا كأنهم يدقون الحديد ليفكوا اللحام وبالفعل تمكنوا من ذلك قليلا .. إذ أن عبدالعزيز شيئا فشيئا حتى رضخ لهم ووعدهم بأنه سيحاول أن يكون موجودا كل ليلة ولكي يقنعهم بأن زواجه لم يغيره أبدا , وبالفعل بدأ يجلس معهم كثيرا غير آبه بزوجته التي راحت تعابته كثيرا هي الأخرى لأنه يتركها وحيدة في المنزل كل ليلة وتذكره بحقوقها عليه.
ظل في صراع كثيرا مع زوجته حتى حملت وأنجبت له طفلا أفرحه وأسعده وجعله يعدها بألا يذهب ويجلس مع أصدقاءه كما كان يفعل سابقا .. وبالفعل وفى لها بوعده وأنقطع عنهم لثلاثة أشهر كان خلالهما يلاعب ويمازح أبنه الصغير , ورفاقه بالشقة كانوا يهاتفونه مرارا وتكرارا ويحاولون معه أن يتواصل ولا ينقطع عنهم .
وبعد كل هذه المحاولات منهم رجع أخيرا وجلس معهم لليلتين متواصلتين ... ولكن جلوسه في تلك الليلتين أحس بأنه لم يعد يشعر بالسعادة كما كان في الماضي إذ يبدو بأن المتعة التي عاشها ذات يوما هنا في هذه الشقة قد فقدها .. وبدا جليا على ملامحه حتى لمن لا يعرفه بأن جلوسه بداخلها يصيبه بالهم والغم .. وأن عقله وقلبه وتصرفاته وهدوءه وكل حواسه وجوارحه قد تعلقوا بإبنه وزوجته .. وفي الليلة الثالثة بعدما غادر الجميع من الشقة حيث ظل هو وحيدا مستكرها يفكر ويفكر وقد سبقه الملل قبل كل شيء , راح يخاطب نفسه :
- لا أصدق بأنني أصبحت أكره هذا المكان بشدة !
- ويحي .. لقد عشت أفضل أيامي هنا , هل من المعقول بأن محبتي لإبني وزوجتي جعلوني هكذا ؟
- أن ذلك يشعرني كما لو كنت خائنا لهذا المكان ؟
- ماذا سيقول الرفاق عني ؟ بأنني أبتعدت عنهم وتناسيت كل الليالي الجميلة التي قضيتها معهم ؟
- ولكنني لم أعد سعيدا هنا كما كنت من قبل .
قرر بعدها المداومة على الحضور إلى الشقة كل ليلة .. ضارب عرض الحائط بذلك الواقع الذي فرض عليه , وبالفعل رجع مرة أخرى مع رفاقه كما في السابق ولكنه لم يستطع أن يعيد تلك الأيام الجميلة والمشاعر التي كان يحس بها في الماضي بل تغير إلى الأسوء والأسوء أصبح كثير الصراخ والمشاكل مع زوجته ورفاقه , مرت اشهر عدة وهو بحالته تلك لم يتغير . وذات يوم بينما كان جالسا في الشقة أتصلت به زوجته الا أنه لم يرد لها جوابا ولم يلتفت لهاتفه .. ظلت تتصل وتتصل الا أنه ظل على عناده ولم يرد بل راح يتباهى بذلك أمام رفاقه ويصف نفسه بالرجل صاحب الكلمة في منزله وليس لزوجته أي سلطة عليه .
وبعد أن أنقضت 4 ساعات عاد إلى منزله .. وما جعله يتفاجأ بأن زوجته لم تكن موجودة .. جلس ينتظرها وينتظر الا أنها لم تأتي , مرت ساعة وقضت ساعتين ولكن لا شيء زوجته لم تأتي , أتصل بها الا أن هاتفها مغلق وكأن الزمن يعيد ذاته ويذيقه من نفس الكأس الذي أذاقها أياها .. ما جعله يعيش في دهشة شديدة .. أتصل بأهلها ألا أن أحدا لم يرد أزدادت به حيرته وتلاعبت به وساوسه .. قرر الذهاب إلى منزلهم الا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة لكي لا يظهر نفسه كشخص ضعيف أمامها .. وظل في حيرته قليلا قليلا حتى غطى في سباته .
أستفاق صباح اليوم التالي بعد أن سمع أصوات ترن في أذانه كأصوات خطوات وحش في أفلام الرعب الأمريكية .. قام من سريره وإذ به يتفاجأ حينما رأى زوجته تضع ملابسها في حقائبها , استغرب من ذلك وما زاد من غرابته أكثر بأن زوجته لم تنظر إليه أو حتى ترمقه بعينها , سألها :
- ماذا تفعلين ؟ واين كنتي بالأمس ؟
أيضا زوجته لم ترد ولم تنظر إليه بل أكملت توضيب حقائبها , صرخ فيها : ما بك ؟ لما لا تكلميني ؟
أيضا لم تهمس له بشيء .
غضب كثيرا وأقترب منها ونظر إلى وجهها .. ابتعدت عنه زوجته ونظرت إليها نظرة خاطفة , وقالت له بصوتا ملئ أنكسارا : ماذا تريد ؟
تعجب عبد العزيز من حال زوجته , فملامحها بدت وكأنها في الستين من العمر , ظل صامتا منشغلا بحيرته , قال بعدها : تبا .. أخبريني ما بك ؟ لقد أقشعر بدني ؟
أجهشت الزوجة بالبكاء , وجلست على السرير بعد أن خارت كل قواها .. قليلا على حالتها تندب حظها في ذاتها , ثم قالت له :
- أنظــر ورائك ؟
أستغرب عبدالعزيز مما قالته , راح ينظر في الغرفة هنا وهناك وهو يقول لها : هل فقدتي عقلك أم ماذا ؟ لا يوجد أحدا بالمنزل عداي ؟ أخبريني علاما أنظر ؟
وبينما هو يتكلم ويتلافت يمينا وشمالا .. توقف به نظره "على صورة أبنه المعلقة على الحائط" .. ظل صامتا يمعن النظر في صورة أبنه لدقائق .. أحس بشيئا يزلزله من أعماقه ويخلخل عظامه , جلس بجانب زوجته وسألها مختنقا في عبرته :
- أين ... أين أبني ؟
- لما .. لما .. لم تحضرينه معك ؟
- ألم اقل لك من قبل ألا تتركيه في منزل عائلتك ؟
أمسكت الزوجة بيده وهي تبكي لكنها لم تتكلم .. قال لها عبدالعزيز : هيا .. هيا دعينا نذهب ونحضر أبني .. أبني .. أبني .. أنني مشتاق له كثيرا .
ظلت الزوجة ممسكت بيده تبكي , ثم قالت له ما كان قد تخيله وليته لم يفعل :
- لقد توفي أبنك بالأمس مختنقا في طعامه .. أتصلت بك وأتصلت مرارا وتكرارا لتأتي وتأخذه إلى المستشفى لكنك لم ترد .
لم يعرف عبدالعزيز ماذا يصنع بعدما سمع اهتز كيانه ووجدانه .. يقف ويجلس .. ينظر يمينا وشمالا .. يخطو إلى الأمام تارة وتارة أخرى يخطو بخطوتين للوراء .. أصابته حالة هستيرية .. أبتسم قليلا , وقال لزوجته :
- لا ... لا لم يمت أبني .. أنتي تكذبين ؟
- كيف ذلك ؟ لم يمت .. سوف ترينه معي وهو يمشي بخطواته الأولى .. ثم يكبر وندخله المدرسة .
صمت لبرهة رأى فيها أبنه يحاول أن يمسك يده ويهمس له "أبي .. أبي .. أمسك بيدي" ما جعله يبتسم ويبتسم حسرة .. فعيناه غارقت في دموعها تعزف سمفوانية صباح حزينة تفوق أنغام بيتهوفن في آلامها .. ظل بعيدا عن واقعه .. يحلم بيوم نجاح طفله الذي رحل , قال بعد لحظات :
- دعيني أخبرك أيضا ماذا سأفعل لأبني بعدما ينتهي من المدرسة ويتفوق على الجميع .. سترينه معي وكيف يدخل إلى الجامعة ويتخرج منها ثم يتحصل على وظيفة .. وبعدها يتعرف على بعض الأصدقاء ويتزوج
- قاطعته زوجته وقالت بغضب : أخرس أرجوك .. لا تتحدث عن أبني .. أما يكفيك ما فعلت ؟ أما يكفيك بأنك السبب لما جرى له ؟
- غضب بشدة , وصرخ عليها : أخرسي .. قلت لك أخرسي .. ابني لم يمت ألا تفهمين .. دعيني أخبرك ماذا سيفعل أبني عندما يتزوج ؟ سوف يجلس مع أصدقاءه ويترك زوجته وحيدة .. ثم تنجب له طفلا وسيكون سعيدا به وسيفضله على الجميع .. ولكنه سيتركه بعد فترة وسيرجع إلى أصدقاءه .
سكت باكيا منغمسا في صدمته , ثم قال بنبرة كلها حشرجة : لكنني سأخبر أبني بأن يترك أصدقاءه وحياته الماضية ويعيش مع أبنه وزوجته وألا يفارقهم ولو للحظة واحدة .. لأنهم مصدر سعادته ومن سيملئون له الحياة فرحا وسرورا , ثم سكت مرة أخرى شيئا ما قاطع أنفاسه وسد ما في ريقه أجبره على الصمت .
بعد لحظات أخذت زوجته حقائبها مغادرة .. ولكن قبل أن ترحل , قالت له :
- أريدك أن تطلقني , فلا أستطيع العيش معك أو حتى رؤيتك ! غادرت بعدها المنزل .
تمر الأيام عليه وحيدا في منزله الذي بات موحشا مظلما , لا يغادره و لا يخرج منه .. يضرب رأسه في الجدار تارة وتارة أخرى يستمعُ لما تيسر من كتاب الله الحكيم نادما متحسرا يبكي على موت أبنه .. مصيبة حلت عليه رسم خطوطها بريشة يده جعلته يرى الشمس قمرا .. يسهر في الليل وحيدا يردد بينه وبين نفسه "أما آن لهذا الليل أن ينجلي" .. وبعد أياما وليالً مرت تقطعت فيها نياط قلبه .. بدأ الخروج من منزله في ظلمة القمر وخفقان نور النجم وسكون الظلام وهدوءه .. ولكن وجهته كانت واحدة .. مكان واحد يقصده لا غير .. بدل أن يذهب إلى شقة رفاقه .. ظل يزور قبر أبنه كل ليلة .
بقلمي
عبدالعزيز شاب بسيط كمعظم الشباب من أبناء جيله لديه مع بعض أصدقاءه "شقة" يجلسون فيها ويستريحون يستمتعون ويهزئون من الجميع بداخلها إذ أصبحت كملجأ ومخبئا لهم يبتعدون فيها عن الشارع ومشاكله والمنزل وهمومه .
تصرمت سنين من حياتهم والشقة تخلد ذكرياتهم وأيامهم التي مرت عليهم وغيرت بعضهم .. وعبدالعزيز تزوج بعد كُتب له دخول بيت الأفراح وقفص الزوجية بالرغم من أنه كان أكثر رفاقه سهرا وجلوسا في الشقة .. كانوا أصدقاءه سعداء بزواجه بشدة رغم أنهم أفتقدوا وجوده بينهم .. إذ مر شهرا وشهرين وهو منقطعا عنهم لا يأتي لزيارتهم الا قليلا جدا مما أغضب رفاقه الذين أخذوا يصفونه بأنه أسيرا لزوجته وتقوده كما تقاد النعاج .
ولكثر العتب الذي لقيه منهم ومعايرتهم له بأن زواجه غيره وقلب كيانه وأنساه أصدقاء عشرته وطفولته .. لم يتركوه وشأنه ظلوا يسخرون منه لضعفه أمام نصفه الآخر ومن جُعلت مسكنا له .. كانوا كأنهم يدقون الحديد ليفكوا اللحام وبالفعل تمكنوا من ذلك قليلا .. إذ أن عبدالعزيز شيئا فشيئا حتى رضخ لهم ووعدهم بأنه سيحاول أن يكون موجودا كل ليلة ولكي يقنعهم بأن زواجه لم يغيره أبدا , وبالفعل بدأ يجلس معهم كثيرا غير آبه بزوجته التي راحت تعابته كثيرا هي الأخرى لأنه يتركها وحيدة في المنزل كل ليلة وتذكره بحقوقها عليه.
ظل في صراع كثيرا مع زوجته حتى حملت وأنجبت له طفلا أفرحه وأسعده وجعله يعدها بألا يذهب ويجلس مع أصدقاءه كما كان يفعل سابقا .. وبالفعل وفى لها بوعده وأنقطع عنهم لثلاثة أشهر كان خلالهما يلاعب ويمازح أبنه الصغير , ورفاقه بالشقة كانوا يهاتفونه مرارا وتكرارا ويحاولون معه أن يتواصل ولا ينقطع عنهم .
وبعد كل هذه المحاولات منهم رجع أخيرا وجلس معهم لليلتين متواصلتين ... ولكن جلوسه في تلك الليلتين أحس بأنه لم يعد يشعر بالسعادة كما كان في الماضي إذ يبدو بأن المتعة التي عاشها ذات يوما هنا في هذه الشقة قد فقدها .. وبدا جليا على ملامحه حتى لمن لا يعرفه بأن جلوسه بداخلها يصيبه بالهم والغم .. وأن عقله وقلبه وتصرفاته وهدوءه وكل حواسه وجوارحه قد تعلقوا بإبنه وزوجته .. وفي الليلة الثالثة بعدما غادر الجميع من الشقة حيث ظل هو وحيدا مستكرها يفكر ويفكر وقد سبقه الملل قبل كل شيء , راح يخاطب نفسه :
- لا أصدق بأنني أصبحت أكره هذا المكان بشدة !
- ويحي .. لقد عشت أفضل أيامي هنا , هل من المعقول بأن محبتي لإبني وزوجتي جعلوني هكذا ؟
- أن ذلك يشعرني كما لو كنت خائنا لهذا المكان ؟
- ماذا سيقول الرفاق عني ؟ بأنني أبتعدت عنهم وتناسيت كل الليالي الجميلة التي قضيتها معهم ؟
- ولكنني لم أعد سعيدا هنا كما كنت من قبل .
قرر بعدها المداومة على الحضور إلى الشقة كل ليلة .. ضارب عرض الحائط بذلك الواقع الذي فرض عليه , وبالفعل رجع مرة أخرى مع رفاقه كما في السابق ولكنه لم يستطع أن يعيد تلك الأيام الجميلة والمشاعر التي كان يحس بها في الماضي بل تغير إلى الأسوء والأسوء أصبح كثير الصراخ والمشاكل مع زوجته ورفاقه , مرت اشهر عدة وهو بحالته تلك لم يتغير . وذات يوم بينما كان جالسا في الشقة أتصلت به زوجته الا أنه لم يرد لها جوابا ولم يلتفت لهاتفه .. ظلت تتصل وتتصل الا أنه ظل على عناده ولم يرد بل راح يتباهى بذلك أمام رفاقه ويصف نفسه بالرجل صاحب الكلمة في منزله وليس لزوجته أي سلطة عليه .
وبعد أن أنقضت 4 ساعات عاد إلى منزله .. وما جعله يتفاجأ بأن زوجته لم تكن موجودة .. جلس ينتظرها وينتظر الا أنها لم تأتي , مرت ساعة وقضت ساعتين ولكن لا شيء زوجته لم تأتي , أتصل بها الا أن هاتفها مغلق وكأن الزمن يعيد ذاته ويذيقه من نفس الكأس الذي أذاقها أياها .. ما جعله يعيش في دهشة شديدة .. أتصل بأهلها ألا أن أحدا لم يرد أزدادت به حيرته وتلاعبت به وساوسه .. قرر الذهاب إلى منزلهم الا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة لكي لا يظهر نفسه كشخص ضعيف أمامها .. وظل في حيرته قليلا قليلا حتى غطى في سباته .
أستفاق صباح اليوم التالي بعد أن سمع أصوات ترن في أذانه كأصوات خطوات وحش في أفلام الرعب الأمريكية .. قام من سريره وإذ به يتفاجأ حينما رأى زوجته تضع ملابسها في حقائبها , استغرب من ذلك وما زاد من غرابته أكثر بأن زوجته لم تنظر إليه أو حتى ترمقه بعينها , سألها :
- ماذا تفعلين ؟ واين كنتي بالأمس ؟
أيضا زوجته لم ترد ولم تنظر إليه بل أكملت توضيب حقائبها , صرخ فيها : ما بك ؟ لما لا تكلميني ؟
أيضا لم تهمس له بشيء .
غضب كثيرا وأقترب منها ونظر إلى وجهها .. ابتعدت عنه زوجته ونظرت إليها نظرة خاطفة , وقالت له بصوتا ملئ أنكسارا : ماذا تريد ؟
تعجب عبد العزيز من حال زوجته , فملامحها بدت وكأنها في الستين من العمر , ظل صامتا منشغلا بحيرته , قال بعدها : تبا .. أخبريني ما بك ؟ لقد أقشعر بدني ؟
أجهشت الزوجة بالبكاء , وجلست على السرير بعد أن خارت كل قواها .. قليلا على حالتها تندب حظها في ذاتها , ثم قالت له :
- أنظــر ورائك ؟
أستغرب عبدالعزيز مما قالته , راح ينظر في الغرفة هنا وهناك وهو يقول لها : هل فقدتي عقلك أم ماذا ؟ لا يوجد أحدا بالمنزل عداي ؟ أخبريني علاما أنظر ؟
وبينما هو يتكلم ويتلافت يمينا وشمالا .. توقف به نظره "على صورة أبنه المعلقة على الحائط" .. ظل صامتا يمعن النظر في صورة أبنه لدقائق .. أحس بشيئا يزلزله من أعماقه ويخلخل عظامه , جلس بجانب زوجته وسألها مختنقا في عبرته :
- أين ... أين أبني ؟
- لما .. لما .. لم تحضرينه معك ؟
- ألم اقل لك من قبل ألا تتركيه في منزل عائلتك ؟
أمسكت الزوجة بيده وهي تبكي لكنها لم تتكلم .. قال لها عبدالعزيز : هيا .. هيا دعينا نذهب ونحضر أبني .. أبني .. أبني .. أنني مشتاق له كثيرا .
ظلت الزوجة ممسكت بيده تبكي , ثم قالت له ما كان قد تخيله وليته لم يفعل :
- لقد توفي أبنك بالأمس مختنقا في طعامه .. أتصلت بك وأتصلت مرارا وتكرارا لتأتي وتأخذه إلى المستشفى لكنك لم ترد .
لم يعرف عبدالعزيز ماذا يصنع بعدما سمع اهتز كيانه ووجدانه .. يقف ويجلس .. ينظر يمينا وشمالا .. يخطو إلى الأمام تارة وتارة أخرى يخطو بخطوتين للوراء .. أصابته حالة هستيرية .. أبتسم قليلا , وقال لزوجته :
- لا ... لا لم يمت أبني .. أنتي تكذبين ؟
- كيف ذلك ؟ لم يمت .. سوف ترينه معي وهو يمشي بخطواته الأولى .. ثم يكبر وندخله المدرسة .
صمت لبرهة رأى فيها أبنه يحاول أن يمسك يده ويهمس له "أبي .. أبي .. أمسك بيدي" ما جعله يبتسم ويبتسم حسرة .. فعيناه غارقت في دموعها تعزف سمفوانية صباح حزينة تفوق أنغام بيتهوفن في آلامها .. ظل بعيدا عن واقعه .. يحلم بيوم نجاح طفله الذي رحل , قال بعد لحظات :
- دعيني أخبرك أيضا ماذا سأفعل لأبني بعدما ينتهي من المدرسة ويتفوق على الجميع .. سترينه معي وكيف يدخل إلى الجامعة ويتخرج منها ثم يتحصل على وظيفة .. وبعدها يتعرف على بعض الأصدقاء ويتزوج
- قاطعته زوجته وقالت بغضب : أخرس أرجوك .. لا تتحدث عن أبني .. أما يكفيك ما فعلت ؟ أما يكفيك بأنك السبب لما جرى له ؟
- غضب بشدة , وصرخ عليها : أخرسي .. قلت لك أخرسي .. ابني لم يمت ألا تفهمين .. دعيني أخبرك ماذا سيفعل أبني عندما يتزوج ؟ سوف يجلس مع أصدقاءه ويترك زوجته وحيدة .. ثم تنجب له طفلا وسيكون سعيدا به وسيفضله على الجميع .. ولكنه سيتركه بعد فترة وسيرجع إلى أصدقاءه .
سكت باكيا منغمسا في صدمته , ثم قال بنبرة كلها حشرجة : لكنني سأخبر أبني بأن يترك أصدقاءه وحياته الماضية ويعيش مع أبنه وزوجته وألا يفارقهم ولو للحظة واحدة .. لأنهم مصدر سعادته ومن سيملئون له الحياة فرحا وسرورا , ثم سكت مرة أخرى شيئا ما قاطع أنفاسه وسد ما في ريقه أجبره على الصمت .
بعد لحظات أخذت زوجته حقائبها مغادرة .. ولكن قبل أن ترحل , قالت له :
- أريدك أن تطلقني , فلا أستطيع العيش معك أو حتى رؤيتك ! غادرت بعدها المنزل .
تمر الأيام عليه وحيدا في منزله الذي بات موحشا مظلما , لا يغادره و لا يخرج منه .. يضرب رأسه في الجدار تارة وتارة أخرى يستمعُ لما تيسر من كتاب الله الحكيم نادما متحسرا يبكي على موت أبنه .. مصيبة حلت عليه رسم خطوطها بريشة يده جعلته يرى الشمس قمرا .. يسهر في الليل وحيدا يردد بينه وبين نفسه "أما آن لهذا الليل أن ينجلي" .. وبعد أياما وليالً مرت تقطعت فيها نياط قلبه .. بدأ الخروج من منزله في ظلمة القمر وخفقان نور النجم وسكون الظلام وهدوءه .. ولكن وجهته كانت واحدة .. مكان واحد يقصده لا غير .. بدل أن يذهب إلى شقة رفاقه .. ظل يزور قبر أبنه كل ليلة .
بقلمي