الأقرع
09-05-2015, 06:41 AM
- كيف ترى الحبيبُ ليس كما عرفته ؟
- إلى أي درجة قد تضحي لمن تحب ؟
... بين الوحدة والتضحية والصدمة , ماذا ستفعل ..؟
... وبين ضياع الطرق واليأس , أي الدروب ستسلك ..؟
(جــزيرةٌ لَــعنتُهـا جنة)
دخل سهيل المنزل في منتصف الليل بينما كانت سحر تنتظره .. وما أن رأته حتى عاتبته ووبخته تصــرخ عليه لتأخره , سألته بعدما جرعها الوساوس مرارة :
- أين كنت ؟ لقد تأخرت هذه الليلة كما الأمس , لما ؟
سهيل :
- ومنذ الأمس أخبرتك بأنني في حفل عشاء عند بعض الرفاق الذين لــم أرهم طوال سنين , لماذا تحاولي أن تفتعلي من ذلك مشكلة ؟
سحر :
- لأنك لاتقول الحقيقة , فلا أظنك كنت عند رفاقك !
أمتعض سهيل منها .. فتركها وذهب إلى غرفة النوم .. ولكنها تبعته تبكي وتصرخ :
- أعرف , أعرف بأنك كنت عند أحدى الفتيات , هيا أخبرني بالصدق ؟
لــم يرد سهــيل عليــها , لكنــها أكملت :
- لماذا ؟
- لماذا , هيا قل لي ؟
- لماذا , تفعل بي هذا .. هل قصرت في حقك بشيء ؟
- مــرت سنتين ولــم أنجب لك طفلً , وهذا الأمر ليس منـــي ؟
تأفف سهيل , ثم أسترجع وقال :
- أنا لله وأنا إليه راجعون , ألا زلت تكررين هذا الموضوع ؟ أخبرتك مسبقا بأنني لا آبه لهذا الأمر فلــم يمضي على زواجنا عدا سنتين فأين المشكلة في ذلك .. وغيرنا قضوا عشرات السنين بعدها رزقوا بأطفال , في الحقيقة لا أدري لــم تضخمين المسائل دوما ! صدقيني , أقسم لك لا توجد في حياتي فتاة غيرك , كل ما هنالك بأني كنت عند رفاقي ولا أدري كيف أقنعك بهذا ؟
سكت قليلا .. ثم أمسك بيدها وقال لــها :
- تعالي , تعالي أجلسي بجانبي !
وبعدما فعلت ذلك وأقتربت منه , سألــها :
- ما بك يا سحر ؟
- ما لي أراك غاضبة على الدوام ؟
- لــما لا تثقين بي ؟
سحر التي كانت في حالة حزنــها , قالت له :
- لأنني فقدت أمي وأبي صغيرة كما تعرف , وليس لي أحدا بعد الله سواك , فلا أريد أن أفقدك أنت أيضـــا !
سهيل :
- لــن يحدث ذلك , أطمئني .. فهل هناك من يتخلى عن قلبه ويخرجه من جسده , ثم أنك الفتاة الوحيدة التي قبلت الزواج مني بعد خروجي من السجن .. وبعدتوبتي وهدايتي وتركي طريق الجريمة والمعصية إلى الأبد , فهل جميلك هذا يُنسى ؟ ولكن ليتني أعرف سبب تذمرك وغضبك الدائم ؟
سحر :
- لأنني مللت الجلوس في المنزل , مللت رؤية ذات المكان .. مللت هذه الجدران .. مللت هذا الأثاث .. مللت لون الأصباغ , أريد الخروج والأبتعاد قدر الأمكان عن هنا , أريد أن أبدل هذه الأجواء التي أعتدتها وأصابتني بالقلق والأكتئاب !
سهيل :
- حسنا , لك ما أردت , ولكن أنتظري حتى أشتري مركبــا وسآخذك للبحــر كل يوم , فكما تعلمين عشقي لرحلات الشواطئ والسباحة والذهاب للبحر مذ كنت صبيا !
سحر :
- ولكن أرجو ألا تطيل الوقت وتتأخر كثيرا في شراءه , فلا قدرة لي على الجلوس مدة أطول .
أنقضى شهر وما يزيد قليلا .. أشترى مـركبا بعدما جمع المال المطلوب ليتملك عقده , طلب من سحــر أن تستعد ليأخذها في جولة فوق أمواج البحر وبين أعماقه الذي تخبئ داخلها ما تخبئ من أسرار وكنوز وغدر .
راحت تعد العدة جيدا .. تجهز لوازم الرحلة والبحر , ومع بزوغ فجر اليوم الذي سيخرجون فيه وصلوا إلى الشاطئ بسيارتــهم يجرون خلفهم مركبهم , أنزلوه في البحر وركبوا .. حتى دخلوا أعماق المياه , كانت سحر سعيدة جدا .. تنظر إلى أتجاهات البحر الذي لا يحيطه شيء , تشم ملوحة المياه التي أختلطت مع نسيم الهواء , تتكلم مع زوجها تارة وتارة أخرى تلمس ماء البحر بيدها .
كان سهيل يخبرها الكثير من قصص رحلاته مع رفاقه وما كان يجري عليهم في تلك الأعوام التي خلت , يخبرهــا بأن وجودها معه على المركب وسط البحر هي اللحظة الأروع من كل الرحلات التي ذهبها سابقا , وما يثير الحماسة أكثر هو رؤية ملامحها الجميلة فذلك يدخل الأطمئنان على قلبه ويشعره بالراحة , فهي في عالمه لا يساويـــها أحد .
قاطع حسهم الرومانسي السعيد صوت قوي قد ضرب محرك المركب مما أصابه بعطــل ولــم يعد قادرا على تشغيله والأبحار به , أصيبت سحر برهبة شديدة وفزع .. ألا أن سهيل طمئنها بسهولة المشكلة ويستطيع أصلاحها بسرعة .
نزل إلى البحر وغطس تحت المركب يحاول تخليص المحرك من شباك الصيد الكثيرة التي علقت به , كان الأمر معقدا ويحتاج مجهودا كبيرا وليس معه أحدا يساعده , راح يحاول .. ويصلح .. ويفك الخيوط والشباك على عجالة ولكن الأمر كان أصعب مما يتخيل .. فلقد وصلت الشباك إلى باطن المحرك , ولــم يكن الجهاز اللأسلكي في مركبه يعمل بل كان معطل وخــرب .
لــم يكن أمامه من سبيلً عدا الأستمرار قبل حلول الظلام , ظل يعمل بمشقة وأصرار ويعمل حتى لــم يتبقى من الشباك ألا قلة ويحلــه .. ولكن الليل قد خيم عليهما .. والقمر والنجوم تلألأت في السماء فوقهم .. إلى أن أنتهى أخيرا من أصلاح المشكلة .
شغل المــركب وبعد عدة محاولات بدأ يعمل .. تحرك من مكانه فوق البحــر الراكد ليلتها عائدا إلى شواطئ المدينة .. ألا أن هناك مشكلة أخرى قد حلت به .. فلقد أظــل طريق العودة ولا يدري أين مكان الشاطئ من قعر البحر , ظل يعوم ويجول هنا وهناك .. يبحث عن أثـــرا للأنارة أو ضوء من اضواء المدينة .. ولكن لا شيء .. لــم يرى عدى سواد الليل الحالك والذي أختلط مع صوت الأمواج وقفزات الأسماك .
كان يدور في حلقة مفرغة .. تائه لا يدري محل المرسى من محــل السفينة , سألته سحر بعد صمت مدقع خيم عليها لشدة خوفها وأعصابها المنشدة إلى آخر حد والـــفزع قد فعل بها ما فعل :
- ماذا يجري ؟
- هل أضعت الطريق ؟
سهيل :
- لا أريد أخافتك , ولكن يبدو كذلك ؟
سحر :
- وما العمل الآن ؟
- هل سنظل في البحر طوال الليل ؟
سهيل :
- إذ لــم يتبين لي شيء , سأتوقف حتى طلوع الشمس !
مرت نصف ساعة يجوب اليمين واليسار .. جنوبا وشمال .. يبحث عن بعض أمل .. يبحث عن ثقب نــور , وفجأة لفت نظره من بعيد وكأنه يتراء له بأن هناك جزيرة أمامه خلف الضباب , أقترب بمركبه وأقترب .. حتى أتضحت له الرؤيا أخيرا وأيقــن بأن ما يراه هي جزيرة بالفعل وسط هذا البحر , ذهب بأتجاهها إلى أن وصل رمالــها .. أوقف المركب ونزل مع سحــر فوق أرضهــا .
وبينما كانوا يخطون خطواتهم الأولى فوق الجزيرة , سألته :
- ما هذا المكان؟
أجابهـــا:
- في الحقيقة لا أدري , فلــم يسبق لي أن سمعت عن جزيرة هنــــــــا !
أستفسرت منه والخوف قطع نياط قلبها :
- وما العمــل الآن ؟ وهل هذه الجزيرة آمنة ! ربما هناك وحوش أو سباع أو حتى مجرمون هاربون !
أجابها مبتسما :
- مممممم سباع ربمـــــا .. ولكن مجرمون لا أظن , قد تكون هذه الجزيرة من ضمن محميات الدولة ... وأن كان هكذا بالفعل فهذا يعني بأن مشكلتنا قد حُلت .
قليلا ثــــم قال لـــها :
.. دعينا الآن نستكشف المكان ونشاهده ونعرف تفاصيله , فهذه الجزيرة لــم أسمع بأحد قد تكلم عنها من قبل !
راحوا يسيرون مع طلوع الفجر يمتعون ناظريهم بجمالــها وروعة أشجارها وصفاء خضرتها ونعومة رمالــها ولذة فواكهــها , يسمعون تغاريد الطيور والعصافير كأنها ألحانـــا وسمفوانيات يطربُ منها الأصم , يلاعبون ويداعبون حيواناتها الأليفة ويطعمونها بأيديهم ويمسحون فوق فروها الذي لــم يلامسوا مثل نعومته من قبل أو حتى يشاهدوه في أفلام وثائقية .
وبعد ساعات نصب سهيل خيمة صغيرة , وأستلقوا بداخلها وغطوا في سباتهم بعد يومهم الذي عاشوه وتبدلت خلاله الأمور أكثر من مرة .. وفي كل مرة يتغير الحال إلى نقيضه تمــاما .
قرروا فور أن أستفاقوا من نومهم بأن يمكثون على هذه الجزيرة لثلاثة ايام أو أربعة كأنهم في سفر , كانوا يستمتعون بكل لحظاتهم كالملك وأميرته فوق جنة الأرض التي يمشون عليها لا يشاركهم فيها أحد , جابوها كلـــها من أقصاها إلى اقصاها .. تيقنوا خلالـــها بأن يد البشر لم تطلها من قبل ولا يبدو بأن هناك من يعرف عنها شيئا أو يدلــــــها .
وبعد أن مرت أيام ستة أكثر مما قرروا المكوث .. أرادوا العودة إلى مدينتهم , وكان سهيل في مركبه يحاول تشغيله مرارا ولــم يفلح .. فالمحــــرك يبدو تدمر تماما ما يستحيل أصلاحه , أحتاروا في أمرهم ماذا يفعلون , وكأنه كتب عليهم الوصول إلى هذه الجزيرة والعيش فيهــا , أستسلموا نهاية الأمر لواقعهم الذي فرض عليهم .. يمشون بخطوات في ذلك الدرب الذي شيد خصيصـــــا لـهم .
مر أسبوعان كان مزاجهم متقلب بين .. فرح .. وملل .. وتعاسة , يعيشون فوق جنة من جنان الأرض ولكنهـــا بلا بشر ..وبلا مشاعر أخرى بينهم ..وبلا أرواحا أخرى معهم ..ولا أنفاس غيرهم , ألا ن حبهما كان أكبر من الظروف التعيسة التي ترافقهم .. حبهــم خفف من وطأة حزنـــهم الذي أصابهم وقد ينتهي بهم إلى أمورٌ لا تحمد عقاباها .
ذات ليلة بينما هم جالسين قبالة بعضهم صامتين لا يتكلمون بعدما أنتهى كل الكلام بداخلهم حتى وصلوا إلى حالة مــلل لا تطاق , سألته سحر :
- هل سنظل على هذه الجزيرة إلى الأبد ؟
- أليس هناك حــل للخروج من هنا ؟
سهيل أجابــها واليأس بدا مسموعا في نبرة صوته :
- أنني مثلك كمــا ترين , لا أستطيع فعل شيء !
- دعينا ننتظر أيام أخر , لعل أحدى السفن تمر من هنا وتنجدنـــــا .
صاحت عليه :
- ننتظـــــر !
- ننتظـــر ...!
- إلى متى ننتظر ؟
- هل تريدنا أن نجلس هنا أكثر ؟
- ألا ترى الواقع الذي نعيشه ؟
- تقول ننتظر ؟ ويحـــك !
سهيل :
- أنني أشعر بالملل أكثر منك , ولكن ماذا تريدينني أن أفعل .. لا نملك عدا الصبر !
أنقضى أسبوعا آخر ولا شيء تغير , ملل لا يحتمل .. صمت مدقع .. شعور بالغربة .. أحساس بالعجز .. قلـــق قد خيم عليهما , عند ذاك أقترح عليها أن يقوم بالسباحة في البحر عله يجد أحدا أو يرى بصيص أمل أو مدينة أو شعلة ضوء تُنيرُ ظلمتهم ,
... فسألته نتعجبة : كيف تريد المغادرة وتركي لوحدي هنــــــــا ؟
سهيل :
- صدقيني هذا أصعب علي مما تتصورين , ولكن هل لديك حل آخر .. فأخبريني به ؟
سحر :
- لا , لا يوجد هناك حل , ولكن كم تظنك ستغيب , كم سيستغرق منك الأمر ؟
سهيل :
- لا أدري , ربما بين يومين أو أربعة أو أكثر !
سحر عضت بشفاهــــها معترضة وقالت :
- لا , لا .. هل أنت مجنون , لــن أجلس لوحدي طوال هذا الوقت .
سهيل أجابـــها بكل عشق وهوى ينظر إليها :
- حسنا , إذ لم ترغبين بذلك .... فبئسا للأمر !
سحر :
- لا , لا أريد ذلك , لا تذهب .. دعنا بحالتنـــا هذه فلعـــل الله يحدث بعد ذلك أمــــرا .
سهيل :
- كمــــــا تشائين .
يُتبـــع ....
- إلى أي درجة قد تضحي لمن تحب ؟
... بين الوحدة والتضحية والصدمة , ماذا ستفعل ..؟
... وبين ضياع الطرق واليأس , أي الدروب ستسلك ..؟
(جــزيرةٌ لَــعنتُهـا جنة)
دخل سهيل المنزل في منتصف الليل بينما كانت سحر تنتظره .. وما أن رأته حتى عاتبته ووبخته تصــرخ عليه لتأخره , سألته بعدما جرعها الوساوس مرارة :
- أين كنت ؟ لقد تأخرت هذه الليلة كما الأمس , لما ؟
سهيل :
- ومنذ الأمس أخبرتك بأنني في حفل عشاء عند بعض الرفاق الذين لــم أرهم طوال سنين , لماذا تحاولي أن تفتعلي من ذلك مشكلة ؟
سحر :
- لأنك لاتقول الحقيقة , فلا أظنك كنت عند رفاقك !
أمتعض سهيل منها .. فتركها وذهب إلى غرفة النوم .. ولكنها تبعته تبكي وتصرخ :
- أعرف , أعرف بأنك كنت عند أحدى الفتيات , هيا أخبرني بالصدق ؟
لــم يرد سهــيل عليــها , لكنــها أكملت :
- لماذا ؟
- لماذا , هيا قل لي ؟
- لماذا , تفعل بي هذا .. هل قصرت في حقك بشيء ؟
- مــرت سنتين ولــم أنجب لك طفلً , وهذا الأمر ليس منـــي ؟
تأفف سهيل , ثم أسترجع وقال :
- أنا لله وأنا إليه راجعون , ألا زلت تكررين هذا الموضوع ؟ أخبرتك مسبقا بأنني لا آبه لهذا الأمر فلــم يمضي على زواجنا عدا سنتين فأين المشكلة في ذلك .. وغيرنا قضوا عشرات السنين بعدها رزقوا بأطفال , في الحقيقة لا أدري لــم تضخمين المسائل دوما ! صدقيني , أقسم لك لا توجد في حياتي فتاة غيرك , كل ما هنالك بأني كنت عند رفاقي ولا أدري كيف أقنعك بهذا ؟
سكت قليلا .. ثم أمسك بيدها وقال لــها :
- تعالي , تعالي أجلسي بجانبي !
وبعدما فعلت ذلك وأقتربت منه , سألــها :
- ما بك يا سحر ؟
- ما لي أراك غاضبة على الدوام ؟
- لــما لا تثقين بي ؟
سحر التي كانت في حالة حزنــها , قالت له :
- لأنني فقدت أمي وأبي صغيرة كما تعرف , وليس لي أحدا بعد الله سواك , فلا أريد أن أفقدك أنت أيضـــا !
سهيل :
- لــن يحدث ذلك , أطمئني .. فهل هناك من يتخلى عن قلبه ويخرجه من جسده , ثم أنك الفتاة الوحيدة التي قبلت الزواج مني بعد خروجي من السجن .. وبعدتوبتي وهدايتي وتركي طريق الجريمة والمعصية إلى الأبد , فهل جميلك هذا يُنسى ؟ ولكن ليتني أعرف سبب تذمرك وغضبك الدائم ؟
سحر :
- لأنني مللت الجلوس في المنزل , مللت رؤية ذات المكان .. مللت هذه الجدران .. مللت هذا الأثاث .. مللت لون الأصباغ , أريد الخروج والأبتعاد قدر الأمكان عن هنا , أريد أن أبدل هذه الأجواء التي أعتدتها وأصابتني بالقلق والأكتئاب !
سهيل :
- حسنا , لك ما أردت , ولكن أنتظري حتى أشتري مركبــا وسآخذك للبحــر كل يوم , فكما تعلمين عشقي لرحلات الشواطئ والسباحة والذهاب للبحر مذ كنت صبيا !
سحر :
- ولكن أرجو ألا تطيل الوقت وتتأخر كثيرا في شراءه , فلا قدرة لي على الجلوس مدة أطول .
أنقضى شهر وما يزيد قليلا .. أشترى مـركبا بعدما جمع المال المطلوب ليتملك عقده , طلب من سحــر أن تستعد ليأخذها في جولة فوق أمواج البحر وبين أعماقه الذي تخبئ داخلها ما تخبئ من أسرار وكنوز وغدر .
راحت تعد العدة جيدا .. تجهز لوازم الرحلة والبحر , ومع بزوغ فجر اليوم الذي سيخرجون فيه وصلوا إلى الشاطئ بسيارتــهم يجرون خلفهم مركبهم , أنزلوه في البحر وركبوا .. حتى دخلوا أعماق المياه , كانت سحر سعيدة جدا .. تنظر إلى أتجاهات البحر الذي لا يحيطه شيء , تشم ملوحة المياه التي أختلطت مع نسيم الهواء , تتكلم مع زوجها تارة وتارة أخرى تلمس ماء البحر بيدها .
كان سهيل يخبرها الكثير من قصص رحلاته مع رفاقه وما كان يجري عليهم في تلك الأعوام التي خلت , يخبرهــا بأن وجودها معه على المركب وسط البحر هي اللحظة الأروع من كل الرحلات التي ذهبها سابقا , وما يثير الحماسة أكثر هو رؤية ملامحها الجميلة فذلك يدخل الأطمئنان على قلبه ويشعره بالراحة , فهي في عالمه لا يساويـــها أحد .
قاطع حسهم الرومانسي السعيد صوت قوي قد ضرب محرك المركب مما أصابه بعطــل ولــم يعد قادرا على تشغيله والأبحار به , أصيبت سحر برهبة شديدة وفزع .. ألا أن سهيل طمئنها بسهولة المشكلة ويستطيع أصلاحها بسرعة .
نزل إلى البحر وغطس تحت المركب يحاول تخليص المحرك من شباك الصيد الكثيرة التي علقت به , كان الأمر معقدا ويحتاج مجهودا كبيرا وليس معه أحدا يساعده , راح يحاول .. ويصلح .. ويفك الخيوط والشباك على عجالة ولكن الأمر كان أصعب مما يتخيل .. فلقد وصلت الشباك إلى باطن المحرك , ولــم يكن الجهاز اللأسلكي في مركبه يعمل بل كان معطل وخــرب .
لــم يكن أمامه من سبيلً عدا الأستمرار قبل حلول الظلام , ظل يعمل بمشقة وأصرار ويعمل حتى لــم يتبقى من الشباك ألا قلة ويحلــه .. ولكن الليل قد خيم عليهما .. والقمر والنجوم تلألأت في السماء فوقهم .. إلى أن أنتهى أخيرا من أصلاح المشكلة .
شغل المــركب وبعد عدة محاولات بدأ يعمل .. تحرك من مكانه فوق البحــر الراكد ليلتها عائدا إلى شواطئ المدينة .. ألا أن هناك مشكلة أخرى قد حلت به .. فلقد أظــل طريق العودة ولا يدري أين مكان الشاطئ من قعر البحر , ظل يعوم ويجول هنا وهناك .. يبحث عن أثـــرا للأنارة أو ضوء من اضواء المدينة .. ولكن لا شيء .. لــم يرى عدى سواد الليل الحالك والذي أختلط مع صوت الأمواج وقفزات الأسماك .
كان يدور في حلقة مفرغة .. تائه لا يدري محل المرسى من محــل السفينة , سألته سحر بعد صمت مدقع خيم عليها لشدة خوفها وأعصابها المنشدة إلى آخر حد والـــفزع قد فعل بها ما فعل :
- ماذا يجري ؟
- هل أضعت الطريق ؟
سهيل :
- لا أريد أخافتك , ولكن يبدو كذلك ؟
سحر :
- وما العمل الآن ؟
- هل سنظل في البحر طوال الليل ؟
سهيل :
- إذ لــم يتبين لي شيء , سأتوقف حتى طلوع الشمس !
مرت نصف ساعة يجوب اليمين واليسار .. جنوبا وشمال .. يبحث عن بعض أمل .. يبحث عن ثقب نــور , وفجأة لفت نظره من بعيد وكأنه يتراء له بأن هناك جزيرة أمامه خلف الضباب , أقترب بمركبه وأقترب .. حتى أتضحت له الرؤيا أخيرا وأيقــن بأن ما يراه هي جزيرة بالفعل وسط هذا البحر , ذهب بأتجاهها إلى أن وصل رمالــها .. أوقف المركب ونزل مع سحــر فوق أرضهــا .
وبينما كانوا يخطون خطواتهم الأولى فوق الجزيرة , سألته :
- ما هذا المكان؟
أجابهـــا:
- في الحقيقة لا أدري , فلــم يسبق لي أن سمعت عن جزيرة هنــــــــا !
أستفسرت منه والخوف قطع نياط قلبها :
- وما العمــل الآن ؟ وهل هذه الجزيرة آمنة ! ربما هناك وحوش أو سباع أو حتى مجرمون هاربون !
أجابها مبتسما :
- مممممم سباع ربمـــــا .. ولكن مجرمون لا أظن , قد تكون هذه الجزيرة من ضمن محميات الدولة ... وأن كان هكذا بالفعل فهذا يعني بأن مشكلتنا قد حُلت .
قليلا ثــــم قال لـــها :
.. دعينا الآن نستكشف المكان ونشاهده ونعرف تفاصيله , فهذه الجزيرة لــم أسمع بأحد قد تكلم عنها من قبل !
راحوا يسيرون مع طلوع الفجر يمتعون ناظريهم بجمالــها وروعة أشجارها وصفاء خضرتها ونعومة رمالــها ولذة فواكهــها , يسمعون تغاريد الطيور والعصافير كأنها ألحانـــا وسمفوانيات يطربُ منها الأصم , يلاعبون ويداعبون حيواناتها الأليفة ويطعمونها بأيديهم ويمسحون فوق فروها الذي لــم يلامسوا مثل نعومته من قبل أو حتى يشاهدوه في أفلام وثائقية .
وبعد ساعات نصب سهيل خيمة صغيرة , وأستلقوا بداخلها وغطوا في سباتهم بعد يومهم الذي عاشوه وتبدلت خلاله الأمور أكثر من مرة .. وفي كل مرة يتغير الحال إلى نقيضه تمــاما .
قرروا فور أن أستفاقوا من نومهم بأن يمكثون على هذه الجزيرة لثلاثة ايام أو أربعة كأنهم في سفر , كانوا يستمتعون بكل لحظاتهم كالملك وأميرته فوق جنة الأرض التي يمشون عليها لا يشاركهم فيها أحد , جابوها كلـــها من أقصاها إلى اقصاها .. تيقنوا خلالـــها بأن يد البشر لم تطلها من قبل ولا يبدو بأن هناك من يعرف عنها شيئا أو يدلــــــها .
وبعد أن مرت أيام ستة أكثر مما قرروا المكوث .. أرادوا العودة إلى مدينتهم , وكان سهيل في مركبه يحاول تشغيله مرارا ولــم يفلح .. فالمحــــرك يبدو تدمر تماما ما يستحيل أصلاحه , أحتاروا في أمرهم ماذا يفعلون , وكأنه كتب عليهم الوصول إلى هذه الجزيرة والعيش فيهــا , أستسلموا نهاية الأمر لواقعهم الذي فرض عليهم .. يمشون بخطوات في ذلك الدرب الذي شيد خصيصـــــا لـهم .
مر أسبوعان كان مزاجهم متقلب بين .. فرح .. وملل .. وتعاسة , يعيشون فوق جنة من جنان الأرض ولكنهـــا بلا بشر ..وبلا مشاعر أخرى بينهم ..وبلا أرواحا أخرى معهم ..ولا أنفاس غيرهم , ألا ن حبهما كان أكبر من الظروف التعيسة التي ترافقهم .. حبهــم خفف من وطأة حزنـــهم الذي أصابهم وقد ينتهي بهم إلى أمورٌ لا تحمد عقاباها .
ذات ليلة بينما هم جالسين قبالة بعضهم صامتين لا يتكلمون بعدما أنتهى كل الكلام بداخلهم حتى وصلوا إلى حالة مــلل لا تطاق , سألته سحر :
- هل سنظل على هذه الجزيرة إلى الأبد ؟
- أليس هناك حــل للخروج من هنا ؟
سهيل أجابــها واليأس بدا مسموعا في نبرة صوته :
- أنني مثلك كمــا ترين , لا أستطيع فعل شيء !
- دعينا ننتظر أيام أخر , لعل أحدى السفن تمر من هنا وتنجدنـــــا .
صاحت عليه :
- ننتظـــــر !
- ننتظـــر ...!
- إلى متى ننتظر ؟
- هل تريدنا أن نجلس هنا أكثر ؟
- ألا ترى الواقع الذي نعيشه ؟
- تقول ننتظر ؟ ويحـــك !
سهيل :
- أنني أشعر بالملل أكثر منك , ولكن ماذا تريدينني أن أفعل .. لا نملك عدا الصبر !
أنقضى أسبوعا آخر ولا شيء تغير , ملل لا يحتمل .. صمت مدقع .. شعور بالغربة .. أحساس بالعجز .. قلـــق قد خيم عليهما , عند ذاك أقترح عليها أن يقوم بالسباحة في البحر عله يجد أحدا أو يرى بصيص أمل أو مدينة أو شعلة ضوء تُنيرُ ظلمتهم ,
... فسألته نتعجبة : كيف تريد المغادرة وتركي لوحدي هنــــــــا ؟
سهيل :
- صدقيني هذا أصعب علي مما تتصورين , ولكن هل لديك حل آخر .. فأخبريني به ؟
سحر :
- لا , لا يوجد هناك حل , ولكن كم تظنك ستغيب , كم سيستغرق منك الأمر ؟
سهيل :
- لا أدري , ربما بين يومين أو أربعة أو أكثر !
سحر عضت بشفاهــــها معترضة وقالت :
- لا , لا .. هل أنت مجنون , لــن أجلس لوحدي طوال هذا الوقت .
سهيل أجابـــها بكل عشق وهوى ينظر إليها :
- حسنا , إذ لم ترغبين بذلك .... فبئسا للأمر !
سحر :
- لا , لا أريد ذلك , لا تذهب .. دعنا بحالتنـــا هذه فلعـــل الله يحدث بعد ذلك أمــــرا .
سهيل :
- كمــــــا تشائين .
يُتبـــع ....