المساعد الشخصي الرقمي


مشاهدة النسخة كاملة : رواية - جزيرةٌ لَعنتُها جنة


الأقرع
09-05-2015, 06:41 AM
- كيف ترى الحبيبُ ليس كما عرفته ؟
- إلى أي درجة قد تضحي لمن تحب ؟

... بين الوحدة والتضحية والصدمة , ماذا ستفعل ..؟
... وبين ضياع الطرق واليأس , أي الدروب ستسلك ..؟


(جــزيرةٌ لَــعنتُهـا جنة)


دخل سهيل المنزل في منتصف الليل بينما كانت سحر تنتظره .. وما أن رأته حتى عاتبته ووبخته تصــرخ عليه لتأخره , سألته بعدما جرعها الوساوس مرارة :
- أين كنت ؟ لقد تأخرت هذه الليلة كما الأمس , لما ؟

سهيل :
- ومنذ الأمس أخبرتك بأنني في حفل عشاء عند بعض الرفاق الذين لــم أرهم طوال سنين , لماذا تحاولي أن تفتعلي من ذلك مشكلة ؟

سحر :
- لأنك لاتقول الحقيقة , فلا أظنك كنت عند رفاقك !

أمتعض سهيل منها .. فتركها وذهب إلى غرفة النوم .. ولكنها تبعته تبكي وتصرخ :
- أعرف , أعرف بأنك كنت عند أحدى الفتيات , هيا أخبرني بالصدق ؟

لــم يرد سهــيل عليــها , لكنــها أكملت :
- لماذا ؟
- لماذا , هيا قل لي ؟
- لماذا , تفعل بي هذا .. هل قصرت في حقك بشيء ؟
- مــرت سنتين ولــم أنجب لك طفلً , وهذا الأمر ليس منـــي ؟

تأفف سهيل , ثم أسترجع وقال :
- أنا لله وأنا إليه راجعون , ألا زلت تكررين هذا الموضوع ؟ أخبرتك مسبقا بأنني لا آبه لهذا الأمر فلــم يمضي على زواجنا عدا سنتين فأين المشكلة في ذلك .. وغيرنا قضوا عشرات السنين بعدها رزقوا بأطفال , في الحقيقة لا أدري لــم تضخمين المسائل دوما ! صدقيني , أقسم لك لا توجد في حياتي فتاة غيرك , كل ما هنالك بأني كنت عند رفاقي ولا أدري كيف أقنعك بهذا ؟

سكت قليلا .. ثم أمسك بيدها وقال لــها :
- تعالي , تعالي أجلسي بجانبي !

وبعدما فعلت ذلك وأقتربت منه , سألــها :
- ما بك يا سحر ؟
- ما لي أراك غاضبة على الدوام ؟
- لــما لا تثقين بي ؟

سحر التي كانت في حالة حزنــها , قالت له :
- لأنني فقدت أمي وأبي صغيرة كما تعرف , وليس لي أحدا بعد الله سواك , فلا أريد أن أفقدك أنت أيضـــا !

سهيل :
- لــن يحدث ذلك , أطمئني .. فهل هناك من يتخلى عن قلبه ويخرجه من جسده , ثم أنك الفتاة الوحيدة التي قبلت الزواج مني بعد خروجي من السجن .. وبعدتوبتي وهدايتي وتركي طريق الجريمة والمعصية إلى الأبد , فهل جميلك هذا يُنسى ؟ ولكن ليتني أعرف سبب تذمرك وغضبك الدائم ؟

سحر :
- لأنني مللت الجلوس في المنزل , مللت رؤية ذات المكان .. مللت هذه الجدران .. مللت هذا الأثاث .. مللت لون الأصباغ , أريد الخروج والأبتعاد قدر الأمكان عن هنا , أريد أن أبدل هذه الأجواء التي أعتدتها وأصابتني بالقلق والأكتئاب !

سهيل :
- حسنا , لك ما أردت , ولكن أنتظري حتى أشتري مركبــا وسآخذك للبحــر كل يوم , فكما تعلمين عشقي لرحلات الشواطئ والسباحة والذهاب للبحر مذ كنت صبيا !

سحر :
- ولكن أرجو ألا تطيل الوقت وتتأخر كثيرا في شراءه , فلا قدرة لي على الجلوس مدة أطول .

أنقضى شهر وما يزيد قليلا .. أشترى مـركبا بعدما جمع المال المطلوب ليتملك عقده , طلب من سحــر أن تستعد ليأخذها في جولة فوق أمواج البحر وبين أعماقه الذي تخبئ داخلها ما تخبئ من أسرار وكنوز وغدر .

راحت تعد العدة جيدا .. تجهز لوازم الرحلة والبحر , ومع بزوغ فجر اليوم الذي سيخرجون فيه وصلوا إلى الشاطئ بسيارتــهم يجرون خلفهم مركبهم , أنزلوه في البحر وركبوا .. حتى دخلوا أعماق المياه , كانت سحر سعيدة جدا .. تنظر إلى أتجاهات البحر الذي لا يحيطه شيء , تشم ملوحة المياه التي أختلطت مع نسيم الهواء , تتكلم مع زوجها تارة وتارة أخرى تلمس ماء البحر بيدها .

كان سهيل يخبرها الكثير من قصص رحلاته مع رفاقه وما كان يجري عليهم في تلك الأعوام التي خلت , يخبرهــا بأن وجودها معه على المركب وسط البحر هي اللحظة الأروع من كل الرحلات التي ذهبها سابقا , وما يثير الحماسة أكثر هو رؤية ملامحها الجميلة فذلك يدخل الأطمئنان على قلبه ويشعره بالراحة , فهي في عالمه لا يساويـــها أحد .

قاطع حسهم الرومانسي السعيد صوت قوي قد ضرب محرك المركب مما أصابه بعطــل ولــم يعد قادرا على تشغيله والأبحار به , أصيبت سحر برهبة شديدة وفزع .. ألا أن سهيل طمئنها بسهولة المشكلة ويستطيع أصلاحها بسرعة .

نزل إلى البحر وغطس تحت المركب يحاول تخليص المحرك من شباك الصيد الكثيرة التي علقت به , كان الأمر معقدا ويحتاج مجهودا كبيرا وليس معه أحدا يساعده , راح يحاول .. ويصلح .. ويفك الخيوط والشباك على عجالة ولكن الأمر كان أصعب مما يتخيل .. فلقد وصلت الشباك إلى باطن المحرك , ولــم يكن الجهاز اللأسلكي في مركبه يعمل بل كان معطل وخــرب .

لــم يكن أمامه من سبيلً عدا الأستمرار قبل حلول الظلام , ظل يعمل بمشقة وأصرار ويعمل حتى لــم يتبقى من الشباك ألا قلة ويحلــه .. ولكن الليل قد خيم عليهما .. والقمر والنجوم تلألأت في السماء فوقهم .. إلى أن أنتهى أخيرا من أصلاح المشكلة .

شغل المــركب وبعد عدة محاولات بدأ يعمل .. تحرك من مكانه فوق البحــر الراكد ليلتها عائدا إلى شواطئ المدينة .. ألا أن هناك مشكلة أخرى قد حلت به .. فلقد أظــل طريق العودة ولا يدري أين مكان الشاطئ من قعر البحر , ظل يعوم ويجول هنا وهناك .. يبحث عن أثـــرا للأنارة أو ضوء من اضواء المدينة .. ولكن لا شيء .. لــم يرى عدى سواد الليل الحالك والذي أختلط مع صوت الأمواج وقفزات الأسماك .

كان يدور في حلقة مفرغة .. تائه لا يدري محل المرسى من محــل السفينة , سألته سحر بعد صمت مدقع خيم عليها لشدة خوفها وأعصابها المنشدة إلى آخر حد والـــفزع قد فعل بها ما فعل :
- ماذا يجري ؟
- هل أضعت الطريق ؟

سهيل :
- لا أريد أخافتك , ولكن يبدو كذلك ؟

سحر :
- وما العمل الآن ؟
- هل سنظل في البحر طوال الليل ؟

سهيل :
- إذ لــم يتبين لي شيء , سأتوقف حتى طلوع الشمس !

مرت نصف ساعة يجوب اليمين واليسار .. جنوبا وشمال .. يبحث عن بعض أمل .. يبحث عن ثقب نــور , وفجأة لفت نظره من بعيد وكأنه يتراء له بأن هناك جزيرة أمامه خلف الضباب , أقترب بمركبه وأقترب .. حتى أتضحت له الرؤيا أخيرا وأيقــن بأن ما يراه هي جزيرة بالفعل وسط هذا البحر , ذهب بأتجاهها إلى أن وصل رمالــها .. أوقف المركب ونزل مع سحــر فوق أرضهــا .

وبينما كانوا يخطون خطواتهم الأولى فوق الجزيرة , سألته :
- ما هذا المكان؟

أجابهـــا:
- في الحقيقة لا أدري , فلــم يسبق لي أن سمعت عن جزيرة هنــــــــا !

أستفسرت منه والخوف قطع نياط قلبها :
- وما العمــل الآن ؟ وهل هذه الجزيرة آمنة ! ربما هناك وحوش أو سباع أو حتى مجرمون هاربون !

أجابها مبتسما :
- مممممم سباع ربمـــــا .. ولكن مجرمون لا أظن , قد تكون هذه الجزيرة من ضمن محميات الدولة ... وأن كان هكذا بالفعل فهذا يعني بأن مشكلتنا قد حُلت .

قليلا ثــــم قال لـــها :
.. دعينا الآن نستكشف المكان ونشاهده ونعرف تفاصيله , فهذه الجزيرة لــم أسمع بأحد قد تكلم عنها من قبل !

راحوا يسيرون مع طلوع الفجر يمتعون ناظريهم بجمالــها وروعة أشجارها وصفاء خضرتها ونعومة رمالــها ولذة فواكهــها , يسمعون تغاريد الطيور والعصافير كأنها ألحانـــا وسمفوانيات يطربُ منها الأصم , يلاعبون ويداعبون حيواناتها الأليفة ويطعمونها بأيديهم ويمسحون فوق فروها الذي لــم يلامسوا مثل نعومته من قبل أو حتى يشاهدوه في أفلام وثائقية .

وبعد ساعات نصب سهيل خيمة صغيرة , وأستلقوا بداخلها وغطوا في سباتهم بعد يومهم الذي عاشوه وتبدلت خلاله الأمور أكثر من مرة .. وفي كل مرة يتغير الحال إلى نقيضه تمــاما .

قرروا فور أن أستفاقوا من نومهم بأن يمكثون على هذه الجزيرة لثلاثة ايام أو أربعة كأنهم في سفر , كانوا يستمتعون بكل لحظاتهم كالملك وأميرته فوق جنة الأرض التي يمشون عليها لا يشاركهم فيها أحد , جابوها كلـــها من أقصاها إلى اقصاها .. تيقنوا خلالـــها بأن يد البشر لم تطلها من قبل ولا يبدو بأن هناك من يعرف عنها شيئا أو يدلــــــها .

وبعد أن مرت أيام ستة أكثر مما قرروا المكوث .. أرادوا العودة إلى مدينتهم , وكان سهيل في مركبه يحاول تشغيله مرارا ولــم يفلح .. فالمحــــرك يبدو تدمر تماما ما يستحيل أصلاحه , أحتاروا في أمرهم ماذا يفعلون , وكأنه كتب عليهم الوصول إلى هذه الجزيرة والعيش فيهــا , أستسلموا نهاية الأمر لواقعهم الذي فرض عليهم .. يمشون بخطوات في ذلك الدرب الذي شيد خصيصـــــا لـهم .

مر أسبوعان كان مزاجهم متقلب بين .. فرح .. وملل .. وتعاسة , يعيشون فوق جنة من جنان الأرض ولكنهـــا بلا بشر ..وبلا مشاعر أخرى بينهم ..وبلا أرواحا أخرى معهم ..ولا أنفاس غيرهم , ألا ن حبهما كان أكبر من الظروف التعيسة التي ترافقهم .. حبهــم خفف من وطأة حزنـــهم الذي أصابهم وقد ينتهي بهم إلى أمورٌ لا تحمد عقاباها .

ذات ليلة بينما هم جالسين قبالة بعضهم صامتين لا يتكلمون بعدما أنتهى كل الكلام بداخلهم حتى وصلوا إلى حالة مــلل لا تطاق , سألته سحر :
- هل سنظل على هذه الجزيرة إلى الأبد ؟
- أليس هناك حــل للخروج من هنا ؟

سهيل أجابــها واليأس بدا مسموعا في نبرة صوته :
- أنني مثلك كمــا ترين , لا أستطيع فعل شيء !
- دعينا ننتظر أيام أخر , لعل أحدى السفن تمر من هنا وتنجدنـــــا .

صاحت عليه :
- ننتظـــــر !
- ننتظـــر ...!
- إلى متى ننتظر ؟
- هل تريدنا أن نجلس هنا أكثر ؟
- ألا ترى الواقع الذي نعيشه ؟
- تقول ننتظر ؟ ويحـــك !

سهيل :
- أنني أشعر بالملل أكثر منك , ولكن ماذا تريدينني أن أفعل .. لا نملك عدا الصبر !

أنقضى أسبوعا آخر ولا شيء تغير , ملل لا يحتمل .. صمت مدقع .. شعور بالغربة .. أحساس بالعجز .. قلـــق قد خيم عليهما , عند ذاك أقترح عليها أن يقوم بالسباحة في البحر عله يجد أحدا أو يرى بصيص أمل أو مدينة أو شعلة ضوء تُنيرُ ظلمتهم ,
... فسألته نتعجبة : كيف تريد المغادرة وتركي لوحدي هنــــــــا ؟

سهيل :
- صدقيني هذا أصعب علي مما تتصورين , ولكن هل لديك حل آخر .. فأخبريني به ؟

سحر :
- لا , لا يوجد هناك حل , ولكن كم تظنك ستغيب , كم سيستغرق منك الأمر ؟

سهيل :
- لا أدري , ربما بين يومين أو أربعة أو أكثر !

سحر عضت بشفاهــــها معترضة وقالت :
- لا , لا .. هل أنت مجنون , لــن أجلس لوحدي طوال هذا الوقت .

سهيل أجابـــها بكل عشق وهوى ينظر إليها :
- حسنا , إذ لم ترغبين بذلك .... فبئسا للأمر !

سحر :
- لا , لا أريد ذلك , لا تذهب .. دعنا بحالتنـــا هذه فلعـــل الله يحدث بعد ذلك أمــــرا .

سهيل :
- كمــــــا تشائين .


يُتبـــع ....

الأقرع
09-05-2015, 06:42 AM
تصرم شهرين وهم يعيشون وحشة على الجنة .. يشعرون بالحــرُ الشديد رغم برودة الطقس .. يمشون فوق رمال ناعمة كأنهم يخطون فوق جمر .. يأكلون ألذ الفواكه ويتجرعونها سُـــم .. يشاهدون الطيور قبيحة رغم جمالها .. ينظرون إلى الحيوانات الأليفة كأنها خنازير بشعة .. يعيشون عكس ما هم عليه , منعزلين عن الــعالم أجمع خلف البحار ولا أحد يدري خبر عنهم .. فسحر يتيمة الأبوين وسهيل لــم يرى والديه منذ دخل السجن آخر مرة .

لم يعودوا يتكلمون مع بعضهم .. لم يعودوا يجلسون قبالة بعضهم .. لم يعودوا يرون بعض .. باتوا كالغرباء , كل منهم منشغل بنفسه في أحدى بقع الجزيرة .. رغم أن الحب بداخل قلوبهم أتجاه بعض هـــو هو لم يتغير ولكنها الظروف ولعنة ما ظنوها جنة .

ذات يوم بينما كان سهيل يسير لوحده , رأى الصدمة أمام عينيه ماثلة .. رأى ما هز كيانه ووجدانه .. رأى ما لــم يتوقعه في عالمه .. إذ شاهد سحر تتكلم وتضحك وتتصرف وكأنها تُمسك بيد أحدهم .. وحالتهــا غريبة جدا على غير ما أعتادها , أقترب منها ليعرف ما الخبر ؟ يستمع ويتلصص ويختلس ! ألا أنه لــم يفهم شيئا مما يحدث أمامه , فباغتها وخرج فجأة قبالتها , وسألـــــها :
- ماذا تفعلين ؟

ألا أنـــها لم ترد , سألها ثانية :
- من تكلمين يا سحـــــــر ؟

أيضا لــم ترد , كانت ملامحها متغيرة على عكس تلك الفتاة التي أحبها .. مما أشعرهُ بالغضب من كل ذلك الموقف وأيضا لسكوتها , فصرخ عليها :
- سحــــر .! سألتك ماذا تفعلين ؟ ومن تكلمين ؟

ألا أنها لــم تلقي له بالً , ولكنها بعد برهة رفعت يدها وأشارت أمامها , وقالت باكية ترتجف وتبتسم في آن معا ومشاعرها مختلطة :
- أنـــها والدتي ..!
- أنظـــــر , أنــها والدتي !

علم سهيل بأن سحر بات عقلهـــا متعبً .. وذهنها مشتت .. وأحاسيسها مشردة .. لا تستطيع التفكير جيدا .. بدت تعيش خيالات في نفسها , ترى أمها التي رحلت عنها صغيرة وتركت بداخلها فراغا لم يستطع أحدا سده , أنتابته قشعريرة في كل جسده , فقال لــها مختنقا في عبرته :
- هيا يا سحر , دعينا نذهب ونجلس على الشاطئ .!

لــم تنظر إليه .. بل كانت تصوب عينها أتجاه والدتها , ثم صاحت :
- لا , لا , اريد الجلوس مع والدتي !

سهيل قال لــها مُنهك القوى :
- حسنا , لك ذلك ! ولكن دعينا الآن نذهب ونستريح على رمال الشاطئ !

وضع يديه على كتفيها يحاول أخذها معه في طريقه .. لكنها أبعدته وجلست على الأرض تصيح وتضرب بيديها على رجليها وتــــردد :
- لا , لا .. أريد والدتي ..!

كان سهيل يعيش الصدمة التي خرت من قواه .. ولكنه تحامل على نفسه وجلس بجانبها وأحتضنها .. وراح يسترجع :
- أنا لله وأنا إليه راجعون .!

.. قال لـــها بعد ذاك :
- حسنا , سنجلس هنا ريثما تأتـــــي والدتك ونغادر .!

أجابته سحر والدموع منها لــم تتوقف كأنها طفلة :
- نعــم , نعم , أريد والدتي !

... ظل معهـــا .. محتضنا أياهـــا بقوة لا يريد تركها .. إلى أن غطت في سباتهـــــــا .

تلك مشكلة أخرى يواجهها غير مشكلته الأساس وسجنهما على الجزيرة , إذ أن محبوبته وزوجته بدأت تفقد الكثير من توازنها وثباتها وعدم قدرتها على المحافظة على عقلها , كانت فاقدة الأحساس بالواقع طوال الوقت .. عدا في لحظات قليلة قصيرة تكون في وعيهـــــا .

بينما سهيل أبتلع الضيم بداخله وتحامل على نفسه ليرعاها ويواسيها ويقف بجانبها في ظروفها العصيبة , كان يبكي على حالتها لوحده .. يحاكي نفسه في كثيرا من الأوقات :
- كيف كانت ؟ وكيف أصبحت ؟
- يا إلـهــــي .!
- يا سبحان الله .!
- ماذا جرى لك وعليك يا سحــر .؟
- كنتِ بالأمس القريب عاقلة .. كاملة .. متزنة .. أجمل من نور القمر .. كنت الشمس التي تدور حولــها الكواكب , وكيف أنقلبت الآن على أعقابك .!
- ما أصعب ذلك , وما أقساه .!
- لقد رأيت الكثير من المجرمين .. لقد عشت عالــم الرذيلة كله .. شاهدت القسوة بشتى أشكالــها وألوانها ولــم اتأثر أو يشفق لي قلب .! ولكن هذا .. هذا أقسى أمــــرً وأصعبه .. أن تــرى حبيبتك تعانـــي .! أن ترى العزيز ومن هو قريب لقلبك ينتكـــس هكذا .. رؤيته يفقد السيطرة على نفسه .. رؤيته يسير في طريقه للجنون .. رؤيته بين هذا وذاك .. بين الأمس واليوم .. بين ثباته وشتاته .. بين سكينته وضياعه .!
- والأصعب من كل هذا , بأنك لا تستطيع فعل شيئا لمساعدته .. تراه يفلت من بين يديك وأنت تنظر إليه بلا حول ولا قوة .!
- لا إله ألا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين .
- ليتكِ تعودين كما كنتِ يا سحر .!
- ويحــي , كم هــو قاسً هذا المنظــــر !
- كم هو مؤلــم وموجع !
- كم هي حسرة باتت في قلبي عليك .
- تــــبا للظروف , وتبا لما فعلته بك ..!

الأيـــام تنقضي وتـمــر وسحر على هوسها وعدم ثباتها وبحثها المستمر عن والدتها لتتكلم معها وتنعم بشيئا من حنانها المفقود .. لتطمئن على من يملءُ وحدتها في هذه الجزيرة الملعونة . بينما أكتفى سهيل بمراقبتهــا من بعيد وتركها بحريتها تتصرف كما تشاء ويحلو لــــها , فقط كان كل ما يهمه ألا تؤذي نفسها , يشعر بداخله بزلزال يهــزه ويتلاعب به يمينا وشمالا .. يبكي على حالــها تارة .. وتارة أخرى يسرح بخياله بعيدا يتذكر محبوبته في ما مضى ويقارنــها بحالها الآن وكيف أصبحت .. تنتابه القشعريرة لحظتهـــا ويحتنق في عبراته ما بين تلك الحبيبة وتلك .

ذات ليلة بينما كان محتضنا أياها كعادته عندما تبكي وتبحث عن طيف أمهـــــا .. أبتعدت عنه وتوقفت أمامها دون أن تتكلــم وهو ينظر إلى ظهرها من الخلف .. وظلت على حالتهــا تلك لدقائق , مما اثار الريبة بداخله .. وقبل أن تذهب في حال سبيلها لتبحث عن أمها , قالت له وهي تطالع الأرض بصوت كله ضياع ونبرات شتات وكأنــها قد نسيته ونسيت حبـــها ومن كان يــوم كل عشقهـــا :
- أدرك جيدا ما تفعله لي , أعرف كيف كرست نفسك لأجلـــي , أنك تذكرني بشاب عرفته من قـــــبل .. شاب أحببته أسمه سهيل , ولا أدري في الحقيقة أين هو الآن .!

غادرت من محلها إلى طريقها تبحث في الجزيرة .. بينما سهيل بكــى بكاء لــم يبكيه أحدا قبله .. وضع رأسه بين ركبتيه .. ينظر أسفله خجــلً .. يصيح ويبكي بعدما سمع ما قطع نياط قلبه .. وأندى جبينه .. رفع رأسه بعد لحظات وصــرخ صرخة هزت البحر بمداهـــــــــــا .. صرخة أهتزت الأرض منهــا .. صرخة أخافت الطيور فوق أشجارها .. صرخة جعلت ظلام تلك الجزيــرة الخائبة يتفجـــر أنوارا بالدموع .

رغم الأيام التي مرت .. والمآسي التي حلت .. والمصائب التي توالت عليهم واحدة تلو أخرى ألا أن سهيل ظل بداخله بعض الأمل .. ظل في جعبته صبرا .. ظل هناك حلــم لم يتحول إلى كابوس , كان يشغل نفسه طوال الوقت محاولً أصلاح المركب .. قام بتفكيك المحرك قطعة قطعة .. يحاول جاهدا تثبيتها جيدا وتعديلها وتنظيفها وأصلاح الأضرار التي لحقت بـه .

وبعد تعب ومشقة وأصرار وطول انتظار ومحاولات عدة .. حلت المعجزة التي لم يتوقعهـــا أو يظنها قد تحدث لـــه .. إذ تمكــن أخيرا من تشغيل المركب , كان فرحا بشدة لم تسعفه الأرض على حملها .. كاد يطير مع الطيور المحلقة فوق رأسه , قد عزم على مغادرة الجزيرة في اليوم التالي .. مغادرة الجزيرة الملعونة التي يحيطها الشؤم من كل جوانبها .. الجزيرة التي سلبت عقل محبوبته .. الجزيرة التي خدعت معشوقته , الجزيرة التي سرقت منه زوجته , ذهب للنوم بعد ذلك المجهود الذي بذله حينما تأكد من نوم سحــر قبله .

وبعد أن أستفاق صباحا نشيط يشعر بالأمل الذي تحقق .. أخذ يستعد ويعد العدة جيدا لرحيله .. صعد المركب ونادى سحر وأمرها بالصعود معه ومرافقته للديار , ألا أنها ظلت متوقفة ولــم تركب , نظرت إليه للحظات ..طالعت بعدها الأرض لدقائق في صمت .. وسهيل يلح عليها بالصعود , بعد برهة من ذلك قالت له بصوت هادئ ونبرة وداع :
- أذهب أنت ..!

قال سهيل منصدما من جوابها :
- ماذا تعنين .. بأذهب أنت ؟
- هيا , هيا أركبي .. ألا تريدين رؤية والدتك في المنزل ؟

سحر بكت وأجابته :
- لا , لا أريد رؤية أحد .! مكاني هنا .. مكاني على هذه الجزيرة .. مكاني على هذه الأرض ولــن أغادرها ..!

ظل سهيل يلح عليها ويلح .. يصر عليها بالصعود , ألا أنها رفضت ذلك , فلم يعرف ماذا يفعل معها , وكيف يُقنعهـــا ؟

وبعدما أدرك بأنها لن ترافقه ولا تريد الرجوع , قـــرر مجبرا الرحيل وحيدا .. كان قرارً صعبا ألا أنه كالمــكره لا البطل حينها , حرك مركبه بالفعل وأبتعد عنها ينظر إليهـــا وهي الأخرى تنظر إليه وعينيهما تحكي اشياء واشياء .. لــم يجرؤ على التلويح لــها مودعا .. لــم يجرؤ على فعل ذلك .. وبعدما أبتعد مسافة عنها وهو مصوبا نظره نحوها وهي كذلك متوقفة تنظر إليه بكل براءة .. بدأت الدموع التي حاول أن يقاومها تُذرف من عينيه ولكنه لم يستطع , يهمس في نفسه :
- لا , لا .. لن أتركها .. لن أدعها لوحدها , أما والله قلبي لا يطاوعني على ذلك !

وبالفعل أستدار بالمركب ورجع إليهـــــا شوقً حتى وصل إلى شواطئ رمل الجزيرة , بينما سحر متوقفة تنظر إليه وكأنها تنتظره .. وحينما نزل من مركبه وأقترب منهــا , سألته :
- لـــما عدت ؟

أجابها سهيل بهدوء وأشتياق :
- لقد تذكرت شيئا ..!

سحر :
- وما ذاك ؟

سهيل :
- ليس هناك أحدا ينتظرنـــي .. فلمـــا ارجع !
- الفتاة التي أحبهـــا وتنتظرني حقا ولا أعرف طريقـــا لغيرها .. أنــها هنا .. هنــا تقف على هذه الأرض !


أقترب منهــا وأمسك بيدها وراح يسير معها في الجزيرة , قليلا ثم قال لـــــها :
- يبدو بأنك محقة فعلا , حينما قلتي "بأن قدرنـــا أن نعيش على هذه الجزيرة إلى الأبد".


بقلمــي

سيهاتي.
09-05-2015, 06:44 AM
ماشاء الله عليك اخونا الكريم

ابداع مستمر

ربي يوفقك