الأقرع
09-22-2016, 12:49 PM
هناك ظروفٌ تحدُث تجعلك متحيرا !
أمـــور صعبة ومعقدة تقسو عليك ,
لا تدري كيف حدثت ولمــــــــا ؟
كأنهــا من نكسةُ الأقدار أو من ألعابُهــا ,
تشبهُ طيفاً مــــر أمامك ,
أو ربما هي خيالٌ لـم تره جيدا ,
هي فقط حدثت فجأة هكذا لأشخاصً دون غيرهم
هؤلاء الأشخاص عادة يكونون أخيارٌ لا أوغاد !
فــ أنت هنا ليس أمامك الا أن تتجاهلها وتجعلها تمــرُ هكذا ,
- فلا أحد يدري ما هو مكتــوبً على صفحات القدر ..!
(ظروف غير أعتيادية)
غازي شابٌ من عائلة ثرية جدا , ذو قلب طيب ومشاعر رقيقة يحب مساعدة الفقراء والمحتاجين وابناء السبيل , كان بارً بأمه التي أخرسها القدر وأفقدها القدرة على الكلام .. يحبها جدا إلى حد الجنون أكثر من بقية أخوته , ورغم صفاته الحميدة ألا أنها الحياة التي تغدر بالجميع وتسعدهم لحظة وتبكيهم لحظات وتجبرهم على أرتكاب الذنوب والخطايا , فلم تتركه وشأنه بل أوقعته في مشاكل كثيرة مع والده دون اشقاءه منذ أن كان صغيرا يتشاجر يومً معه ويومً آخر يتلق الضرب والصفع .
حتى تلك اللحظة المشؤومة التي لعبتها الأقدار جيدا وكأن الحياة تنتظر أمرا كهذا لتنتقم منه بلا سبب , حيث حصلت مشكلة كبيرة مع والده والذي ضربه ضربا مبرحا كما لم يضربه من قبل .. فهرب غازي من منزله وفوقه لهيب الشمس الحارقة تتبعه لتزيد على أوجاعه وجعً , كان يجوب الشوارع وحيدا بلا كفيل أو وليً أو أحد يرعاه ودون مالً أو شيئا يغنيه , كان يسير ويسير تائهً .. وبعد كل ذاك المسير توقف حينما شعر بالأرهاق والتعب والجوع والعطش قطعوا أمعاء بطنه , أنتابه بعض الدوار لسيره المتواصل وتنقله المستمر من سكة إلى سكة .. قرية تلو قرية .. بلا حيلة أو قوة .. تحت حرارة الشمس التي تحرق بلهيبها كل من تجرأ على الوقوف تحت شعاعها .
أستند على حائط أحد المنازل الصغيرة المتهالكة والتي تحكي قصة بؤسِ من يعيش بداخله .. ولشدة تعبه أحتاج شيئا يتكأ عليه فـ قدماه لم تعد قادرة على حمله ولم يجد أمامه عدى ذاك الحائط , وبعد دقائق من وقوفه خرجت صاحبت المنزل لترمي بعض الأوساخ في القمامة , وحينما رأته سألته متعجبة :
- أيها الشاب , ما لي وقوفك على باب داري ؟
.... أستحى منها وخجل .. طأطأ رأسه يطالع الأرض , يفكــر ويعاتب الزمان "يـــاه .. ياهً يــاه" , بعد أن كان عزيز في منزل عائلته .. كريم في قومه مدللً .. بات الآن ذليلا يُطرد ويهان من هذا وذاك , الا أنه لم يستطع الرد عليها .
خاطبته ثانية :
- الا تعرف بأنه من المعيب الوقوف على منازل الغير , الا تعرف بأنه من المعيب أن يقف شخص على منازل خاليةٌ من رجال تحميها , ألم تعلمك والدتك ذلك ؟
دمعت عيناه بعدما سمع .. وكأن المرأة أصابته في مقتل .. وشعر كأنــها تعايره بأمه البكماء , ما جعله يجهش في بكاءه وحزنه الذي أخفاهما تحت أصابع يده .. ولم يقدر على النطق بشيء فهي صاحبة الحق , أكملت ثانية وكأنها تريد أن تزيد من أذلاله وأوجاعه :
- ما بك أيها الشاب لا ترد , هيا , هــيا , أذهب من هنا !
ألا أنه ظل في هدوءه يبتلع أرياق الدموع داخله حائــرا بين كل ذاك وذاك حائــرا من زمانه وأقداره .. حائرا من ينادي بداخله أمــــاه .. حائرا وحيدا تحت الشمس , أكملت المرأة بعدما ظنته لصا وراحت تحكي له معاناتها هي الأخرى عله يتعاطف معها ويتركها وشأنها :
- أن كنت لصً فلقد أخطأت المنازل يا هذا , فنحن فقراء تُعساء لا نملك قوت يومنا , ولقد أنقضى يومين ولم نأكل شيئا حتى الآن .. ولدي أبنة في الداخل تعاني المرض الشديد .. وهي ملقاةٌ على سريرها لسنين طويلة تندب حظها النحس الذي أقعدها وجعلني أنا أمها أنظر إليها وأتحسر عليها فقط , أنني أتحسر لرؤيتها .. أنني اتألــم لـها .. أشعر أنني خذلتها .. ليست هذه الحياة التي تمنيتها لــها , ولكن ليس لدي ما أفعله لـها فلا أملك مالً ولا أعرف أحدا .. وأبنتي التي حلمت يوماً أن أراها كبقية الفتيات سعيدة مدللة والكل يحلم بالزواج منها ويحسدها الجميع على حياتها التي تعيشها ألا أن ذاك كان حالمً وليتني لم أحلم به .. كان حلم يا هذا .. لقد كنت أحلــم فقط .. كنت أحلم .. لكن ذلك الحلم كان طيفاً وخيالً وسراباً يا بني , لذا لا تزيد علينا أوجاعنا .. فأنني أرجوك بمن تحب أن ترحل من هنا !
أجابها في خجل بنبرةً لا تُسمع :
- أنني عطش , هل لي بشربةً من الماء ؟
.... أحضرت له ما يروي ظمأه , شرب حتى شبع .. ثم غادر بعدما شكرها على ما فعلت .
مرت به الأيام والشهور وسكن في أحدى المدن النائية وتحصل على وظيفة بمرتب متدني جدا لا يكاد يكفيه حتى لتأمين قيمة شقته , يسكن وحيدا يعاني الفقر بعدما كان يتمتع بالنعيم .. كان يأكل يوم واليوم الآخر لا يجد من يترأف بحاله , ألا أنه رضي بكل تلك الظروف التي تفننت تعذيبا في مشاعره , وكان يجمع بعض المال ليتعلم لغة الصم والبكم عله يجتمع بأمه في لحظة ما , ظل متقوقعا على نفسه يندب حظه الذي حال بينه وبين أمه التي كانت تمثل له كل ما على الأرض وتحتها يشعر بفقدانه لحنانها وعطفها .
والدته هي الأخرى كانت تنتظر أبنها الذي لم تراه ولا تعلم طريقا له .. ولا تعرف كيف تخبر العالم بذلك فمن سيفهمها ومن سيسمع صوتها الذي لا يُسمع , تحس بفراغا لم يملئه أي أحد من أبناءها الأربعة الذين هم ايضا أنشغلوا بحياتهم ولا يأتون لزيارة والديهم ألا على استحياء .
ذات منتصف ليلً كانت والدته في المطبخ تشرب ماء باردا يبُل ريقها الذي تقطع جفافا وحسرة تبكي بلا صوت ودون نبرة لفراق أبنها وذكراه إذ يبدو بأنه نسيها هو الآخر , حيث مرت سنة ونصف دون أن تعرف ماذا حل به .. وبينما هي في مشاعرها تلك أحست بوجود من يقف خلفها .. أنتابها خوف شديد ظنته لصا للحظة , بعدها أستدارت عليه وكأن السماء أستجابت لدعاءها إذ بها ترى أبنها .
لم تصدق ما رأت , سقط ما بيدها .. غمرتها الدموع فرحا .. أحتضنته بقوة شديدة كأنها أرادت أن ترجعه لجسدها مرة أخرى , قام بتقبيل رأسها ويدها شوقا وحنينً ورحمة ثم راح يتكلم معها ويتحدث بلغتها مما أسعدها ذلك بشدة .. فأخيرا هناك أحدا يفهمها ويتكلم معها .. ومن ذاك يكون أفضل من أبنها الذي فقدته , ظلوا يتحدثون ويعاتبون بعضهما بإشارات الأصابع وكأنهم يعزفون لحنا عن الفراق والشوق يقطع نياط القلب بحزنه , حتى بزغ فجر اليوم التالي وغادر بعدها قبل أن يجلس والده من نومه ويذهب إلى أدارة أعماله وشركاته الكبرى , وظل غازي كل ليلة على هذه الحالة يزورها وقبل بزوغ فجر اليوم التالي يرحل قبل نهوض أبيه وأن الغد لناظره قريب .
أنقضت خمسة أشهر توفيت فيها والدته شعر بعدها بحزنً عميق لن يشفيه أحد , من كانت تملاء حياته سكينة وطمأنينة رحلت في لحظة غدر من الحياة التي تلاعبت به يمينا وشمالا منذ نعومة أظافره .. سلبت منه عزهُ ونعيمه ولم تشفع له .. أدخلته في مشاكل مع والده .. وها هي تسرق منه والدته .
لم يرجع إلى منزل عائلته ثانية فمن كان يمني النفس بها دفنت تحت ذكريات الرمال وظلت أطلالً فقط , بعدها بسنتين توفي والده هو الآخر .. أصيب غازي بكآبة شديدة على الرغم من كل ما جرى بينهما وما زاده سوءً بأنه لم يتصالح معه .. فوالده رحل وهو يحمل في نفسه شيئا منه .
بعد أسبوعً من ذلك ذهب اشقاءه إلى المحامي الذي لديه وصية والدهم ليقتسموا أرثهم الضخم والذي يزيد عن الخمسين مليون , جلسوا كلهم سعداء بما سيكون من نصيبهم يخططون بداخلهم ماذا سيفعلون ؟ وأي المشاريع سيفتتحون ؟ لم يكن غازي بينهم لأنه يعرف بأن نصيبه من تلك التركة لا شيء وكذلك لم يعد مهتما بالمال فمن فقدهم في حياته لا تعوضهم حتى كنوز قارون .
بدأ المحامي يقرء وصية والدهم :
"إلى كل ابناءي .. أنني أحبكم بشدة حتى أكثر من نفسي كما يحب بقية الأباء ابناءهم .. وأتمنى لكم كل الخير والصلاح في حياتكم , لقد فضلتكم على كل شيئا في هذه الحياة .. ولا أريدكم أن تتحاملون على شقيقكم غازي لأنني تركت كل أموالي وممتلكاتي له ....
..... قاطع الأشقاء الوصية والمحامي الذي يُلقمها وهم في حالة من الغضب والذهول وكأن على رأسهم الطير , أخذوا يصرخون ويسبون المحامي غير مصدقين ذلك وأتهموه بتزوير وصية والدهم لأنهم يعرفون بما جرى بينهما والقطيعة التي حدثت .
قال لهم المحامي الذي خشية على نفسه من نظراتهم التي تكاد تفجر كل جوارحه لغضبهم مما سمعوه :
- أنتظروا لحظة , دعوني أكمل وصية والدكم !
جلسوا يستمعون بقيتها , المحامي يكمـــــل :
"أعلم بأن ابناءي قد لا يعجبهم ذلك وتصيبهم الغرابة مما فعلت .. ولكن على مدى أشهر كنت كل ليلة أرى غازي وأسمعه يجلس مع والدته ويتكلم معها وبلغتها وأشاراتها .. يقبل يديها ورجليها ويدخل السرور إلى قلبها وذلك ما لم يفعله فيكم أحد حتى أنا نفسي تركتها وحيدة .. وأنتم قاطعتم والدتكم بدون سبب .. بالرغم من أنكم كنتم معها في المنزل وقريبا من أحضانها حتى كبرتم وتزوجتم ولم يكن لديكم العذر لمقاطعتها هكذا , بينما غازي الذي كانت لديه الأسباب ليقاطع المنزل لخلافه معي ألا أنه لم ينساها قط , عندما كان يجلس معها بمشاعره الصادقة كانت عيني تدمع لأنني فرقت بينه وبينها .. لم أكن أعلم بطيبته وتواضعه ووفائه ومحبته لها بهذه الطريقة ألا بعدما ضاع مني .. أنه حقا الأبن الذي لطالما تمنيته .. هو الشخص الوحيد الذي أثق به وأضع كل ما أملك بين يديه" .
خرج الأشقاء يجرون خلفهم خزيهم وهجرهم لوالدتهم وعقوقهم وطمعهم في المال الذي لم يحصلوا على شيئا منه , بينما تسلم غازي ثروة والده وأملاكه كلها وأدارها جيدا محافظً على أرث أبيه وسمعة عائلته وأسمها في عالم الأقتصاد والأعمال . ورغم كل ما جرى الا أنه لم ينسى تلك المرأة التي أستند على حائطها .. لم ينساها .. لم ينسى مساعدتها له .. ولم ينسى مأساتُها .. ولم ينسى قصتها .. ولم ينسى طعم الماء الذي أسقته , كان كريمــا معها فـ أرسل لــها 5 مليون دولار لعلاج أبنتها التي شفيت من مرضها تماما .... ولم يتوقف عند تلك المساعدة بل قام بخطبة الفتاة والزواج منهـــا .
بقلمـــي
أمـــور صعبة ومعقدة تقسو عليك ,
لا تدري كيف حدثت ولمــــــــا ؟
كأنهــا من نكسةُ الأقدار أو من ألعابُهــا ,
تشبهُ طيفاً مــــر أمامك ,
أو ربما هي خيالٌ لـم تره جيدا ,
هي فقط حدثت فجأة هكذا لأشخاصً دون غيرهم
هؤلاء الأشخاص عادة يكونون أخيارٌ لا أوغاد !
فــ أنت هنا ليس أمامك الا أن تتجاهلها وتجعلها تمــرُ هكذا ,
- فلا أحد يدري ما هو مكتــوبً على صفحات القدر ..!
(ظروف غير أعتيادية)
غازي شابٌ من عائلة ثرية جدا , ذو قلب طيب ومشاعر رقيقة يحب مساعدة الفقراء والمحتاجين وابناء السبيل , كان بارً بأمه التي أخرسها القدر وأفقدها القدرة على الكلام .. يحبها جدا إلى حد الجنون أكثر من بقية أخوته , ورغم صفاته الحميدة ألا أنها الحياة التي تغدر بالجميع وتسعدهم لحظة وتبكيهم لحظات وتجبرهم على أرتكاب الذنوب والخطايا , فلم تتركه وشأنه بل أوقعته في مشاكل كثيرة مع والده دون اشقاءه منذ أن كان صغيرا يتشاجر يومً معه ويومً آخر يتلق الضرب والصفع .
حتى تلك اللحظة المشؤومة التي لعبتها الأقدار جيدا وكأن الحياة تنتظر أمرا كهذا لتنتقم منه بلا سبب , حيث حصلت مشكلة كبيرة مع والده والذي ضربه ضربا مبرحا كما لم يضربه من قبل .. فهرب غازي من منزله وفوقه لهيب الشمس الحارقة تتبعه لتزيد على أوجاعه وجعً , كان يجوب الشوارع وحيدا بلا كفيل أو وليً أو أحد يرعاه ودون مالً أو شيئا يغنيه , كان يسير ويسير تائهً .. وبعد كل ذاك المسير توقف حينما شعر بالأرهاق والتعب والجوع والعطش قطعوا أمعاء بطنه , أنتابه بعض الدوار لسيره المتواصل وتنقله المستمر من سكة إلى سكة .. قرية تلو قرية .. بلا حيلة أو قوة .. تحت حرارة الشمس التي تحرق بلهيبها كل من تجرأ على الوقوف تحت شعاعها .
أستند على حائط أحد المنازل الصغيرة المتهالكة والتي تحكي قصة بؤسِ من يعيش بداخله .. ولشدة تعبه أحتاج شيئا يتكأ عليه فـ قدماه لم تعد قادرة على حمله ولم يجد أمامه عدى ذاك الحائط , وبعد دقائق من وقوفه خرجت صاحبت المنزل لترمي بعض الأوساخ في القمامة , وحينما رأته سألته متعجبة :
- أيها الشاب , ما لي وقوفك على باب داري ؟
.... أستحى منها وخجل .. طأطأ رأسه يطالع الأرض , يفكــر ويعاتب الزمان "يـــاه .. ياهً يــاه" , بعد أن كان عزيز في منزل عائلته .. كريم في قومه مدللً .. بات الآن ذليلا يُطرد ويهان من هذا وذاك , الا أنه لم يستطع الرد عليها .
خاطبته ثانية :
- الا تعرف بأنه من المعيب الوقوف على منازل الغير , الا تعرف بأنه من المعيب أن يقف شخص على منازل خاليةٌ من رجال تحميها , ألم تعلمك والدتك ذلك ؟
دمعت عيناه بعدما سمع .. وكأن المرأة أصابته في مقتل .. وشعر كأنــها تعايره بأمه البكماء , ما جعله يجهش في بكاءه وحزنه الذي أخفاهما تحت أصابع يده .. ولم يقدر على النطق بشيء فهي صاحبة الحق , أكملت ثانية وكأنها تريد أن تزيد من أذلاله وأوجاعه :
- ما بك أيها الشاب لا ترد , هيا , هــيا , أذهب من هنا !
ألا أنه ظل في هدوءه يبتلع أرياق الدموع داخله حائــرا بين كل ذاك وذاك حائــرا من زمانه وأقداره .. حائرا من ينادي بداخله أمــــاه .. حائرا وحيدا تحت الشمس , أكملت المرأة بعدما ظنته لصا وراحت تحكي له معاناتها هي الأخرى عله يتعاطف معها ويتركها وشأنها :
- أن كنت لصً فلقد أخطأت المنازل يا هذا , فنحن فقراء تُعساء لا نملك قوت يومنا , ولقد أنقضى يومين ولم نأكل شيئا حتى الآن .. ولدي أبنة في الداخل تعاني المرض الشديد .. وهي ملقاةٌ على سريرها لسنين طويلة تندب حظها النحس الذي أقعدها وجعلني أنا أمها أنظر إليها وأتحسر عليها فقط , أنني أتحسر لرؤيتها .. أنني اتألــم لـها .. أشعر أنني خذلتها .. ليست هذه الحياة التي تمنيتها لــها , ولكن ليس لدي ما أفعله لـها فلا أملك مالً ولا أعرف أحدا .. وأبنتي التي حلمت يوماً أن أراها كبقية الفتيات سعيدة مدللة والكل يحلم بالزواج منها ويحسدها الجميع على حياتها التي تعيشها ألا أن ذاك كان حالمً وليتني لم أحلم به .. كان حلم يا هذا .. لقد كنت أحلــم فقط .. كنت أحلم .. لكن ذلك الحلم كان طيفاً وخيالً وسراباً يا بني , لذا لا تزيد علينا أوجاعنا .. فأنني أرجوك بمن تحب أن ترحل من هنا !
أجابها في خجل بنبرةً لا تُسمع :
- أنني عطش , هل لي بشربةً من الماء ؟
.... أحضرت له ما يروي ظمأه , شرب حتى شبع .. ثم غادر بعدما شكرها على ما فعلت .
مرت به الأيام والشهور وسكن في أحدى المدن النائية وتحصل على وظيفة بمرتب متدني جدا لا يكاد يكفيه حتى لتأمين قيمة شقته , يسكن وحيدا يعاني الفقر بعدما كان يتمتع بالنعيم .. كان يأكل يوم واليوم الآخر لا يجد من يترأف بحاله , ألا أنه رضي بكل تلك الظروف التي تفننت تعذيبا في مشاعره , وكان يجمع بعض المال ليتعلم لغة الصم والبكم عله يجتمع بأمه في لحظة ما , ظل متقوقعا على نفسه يندب حظه الذي حال بينه وبين أمه التي كانت تمثل له كل ما على الأرض وتحتها يشعر بفقدانه لحنانها وعطفها .
والدته هي الأخرى كانت تنتظر أبنها الذي لم تراه ولا تعلم طريقا له .. ولا تعرف كيف تخبر العالم بذلك فمن سيفهمها ومن سيسمع صوتها الذي لا يُسمع , تحس بفراغا لم يملئه أي أحد من أبناءها الأربعة الذين هم ايضا أنشغلوا بحياتهم ولا يأتون لزيارة والديهم ألا على استحياء .
ذات منتصف ليلً كانت والدته في المطبخ تشرب ماء باردا يبُل ريقها الذي تقطع جفافا وحسرة تبكي بلا صوت ودون نبرة لفراق أبنها وذكراه إذ يبدو بأنه نسيها هو الآخر , حيث مرت سنة ونصف دون أن تعرف ماذا حل به .. وبينما هي في مشاعرها تلك أحست بوجود من يقف خلفها .. أنتابها خوف شديد ظنته لصا للحظة , بعدها أستدارت عليه وكأن السماء أستجابت لدعاءها إذ بها ترى أبنها .
لم تصدق ما رأت , سقط ما بيدها .. غمرتها الدموع فرحا .. أحتضنته بقوة شديدة كأنها أرادت أن ترجعه لجسدها مرة أخرى , قام بتقبيل رأسها ويدها شوقا وحنينً ورحمة ثم راح يتكلم معها ويتحدث بلغتها مما أسعدها ذلك بشدة .. فأخيرا هناك أحدا يفهمها ويتكلم معها .. ومن ذاك يكون أفضل من أبنها الذي فقدته , ظلوا يتحدثون ويعاتبون بعضهما بإشارات الأصابع وكأنهم يعزفون لحنا عن الفراق والشوق يقطع نياط القلب بحزنه , حتى بزغ فجر اليوم التالي وغادر بعدها قبل أن يجلس والده من نومه ويذهب إلى أدارة أعماله وشركاته الكبرى , وظل غازي كل ليلة على هذه الحالة يزورها وقبل بزوغ فجر اليوم التالي يرحل قبل نهوض أبيه وأن الغد لناظره قريب .
أنقضت خمسة أشهر توفيت فيها والدته شعر بعدها بحزنً عميق لن يشفيه أحد , من كانت تملاء حياته سكينة وطمأنينة رحلت في لحظة غدر من الحياة التي تلاعبت به يمينا وشمالا منذ نعومة أظافره .. سلبت منه عزهُ ونعيمه ولم تشفع له .. أدخلته في مشاكل مع والده .. وها هي تسرق منه والدته .
لم يرجع إلى منزل عائلته ثانية فمن كان يمني النفس بها دفنت تحت ذكريات الرمال وظلت أطلالً فقط , بعدها بسنتين توفي والده هو الآخر .. أصيب غازي بكآبة شديدة على الرغم من كل ما جرى بينهما وما زاده سوءً بأنه لم يتصالح معه .. فوالده رحل وهو يحمل في نفسه شيئا منه .
بعد أسبوعً من ذلك ذهب اشقاءه إلى المحامي الذي لديه وصية والدهم ليقتسموا أرثهم الضخم والذي يزيد عن الخمسين مليون , جلسوا كلهم سعداء بما سيكون من نصيبهم يخططون بداخلهم ماذا سيفعلون ؟ وأي المشاريع سيفتتحون ؟ لم يكن غازي بينهم لأنه يعرف بأن نصيبه من تلك التركة لا شيء وكذلك لم يعد مهتما بالمال فمن فقدهم في حياته لا تعوضهم حتى كنوز قارون .
بدأ المحامي يقرء وصية والدهم :
"إلى كل ابناءي .. أنني أحبكم بشدة حتى أكثر من نفسي كما يحب بقية الأباء ابناءهم .. وأتمنى لكم كل الخير والصلاح في حياتكم , لقد فضلتكم على كل شيئا في هذه الحياة .. ولا أريدكم أن تتحاملون على شقيقكم غازي لأنني تركت كل أموالي وممتلكاتي له ....
..... قاطع الأشقاء الوصية والمحامي الذي يُلقمها وهم في حالة من الغضب والذهول وكأن على رأسهم الطير , أخذوا يصرخون ويسبون المحامي غير مصدقين ذلك وأتهموه بتزوير وصية والدهم لأنهم يعرفون بما جرى بينهما والقطيعة التي حدثت .
قال لهم المحامي الذي خشية على نفسه من نظراتهم التي تكاد تفجر كل جوارحه لغضبهم مما سمعوه :
- أنتظروا لحظة , دعوني أكمل وصية والدكم !
جلسوا يستمعون بقيتها , المحامي يكمـــــل :
"أعلم بأن ابناءي قد لا يعجبهم ذلك وتصيبهم الغرابة مما فعلت .. ولكن على مدى أشهر كنت كل ليلة أرى غازي وأسمعه يجلس مع والدته ويتكلم معها وبلغتها وأشاراتها .. يقبل يديها ورجليها ويدخل السرور إلى قلبها وذلك ما لم يفعله فيكم أحد حتى أنا نفسي تركتها وحيدة .. وأنتم قاطعتم والدتكم بدون سبب .. بالرغم من أنكم كنتم معها في المنزل وقريبا من أحضانها حتى كبرتم وتزوجتم ولم يكن لديكم العذر لمقاطعتها هكذا , بينما غازي الذي كانت لديه الأسباب ليقاطع المنزل لخلافه معي ألا أنه لم ينساها قط , عندما كان يجلس معها بمشاعره الصادقة كانت عيني تدمع لأنني فرقت بينه وبينها .. لم أكن أعلم بطيبته وتواضعه ووفائه ومحبته لها بهذه الطريقة ألا بعدما ضاع مني .. أنه حقا الأبن الذي لطالما تمنيته .. هو الشخص الوحيد الذي أثق به وأضع كل ما أملك بين يديه" .
خرج الأشقاء يجرون خلفهم خزيهم وهجرهم لوالدتهم وعقوقهم وطمعهم في المال الذي لم يحصلوا على شيئا منه , بينما تسلم غازي ثروة والده وأملاكه كلها وأدارها جيدا محافظً على أرث أبيه وسمعة عائلته وأسمها في عالم الأقتصاد والأعمال . ورغم كل ما جرى الا أنه لم ينسى تلك المرأة التي أستند على حائطها .. لم ينساها .. لم ينسى مساعدتها له .. ولم ينسى مأساتُها .. ولم ينسى قصتها .. ولم ينسى طعم الماء الذي أسقته , كان كريمــا معها فـ أرسل لــها 5 مليون دولار لعلاج أبنتها التي شفيت من مرضها تماما .... ولم يتوقف عند تلك المساعدة بل قام بخطبة الفتاة والزواج منهـــا .
بقلمـــي