موقفه من الأُمويين
كانت ثورة زيد بن علي بن الحسين عليه السّلام حافزاً كبيراً لتدفق شاعرية الكميت، فهو قد نظم لاميّته المشهورة مؤيِّداً لتلك الثورة هاجياً حكام عصره مندداً بمساوئهم، كاشفاً لعيوبهم، يقول فيها:
ألا هـل عـمٍ فـي رأيـه متأمـلُ وهـل مدبـرٌ بعد الإشـاعة مقبـلُ
وهـل أمـة مستيقظـون لرشـدهم فيكشـف عنـه النعسـة المتزمّـلُ
لقد طال ضد النوم واستخرج الكرى مساوئهم لـو أنّ ذا الميـل يعـدلُ
أرانا على حـب الحيـاة وطولهـا يُجـدُّ بنا فـي كـل يـوم ونهـزَلُ
رضينـا بـدنيـا لا نريـد فراقهـا علـى أننـا فيهـا نمـوت ونُقتـلُ
فتلك ملوكُ السوءِ قد طـال ملكهـم فـحتّـام حتـام العنـاءُ المطـوَّلُ
وما ضربَ الأمثال في الجورِ قبلنا لأجورَ من حكـامنـا المتمثـلُ (5)
فلما بلغت هذه الأبيات مسامع خالد بن عبدالله القسري، وكان والياً على العراق من قِبَل هشام بن عبدالملك، وكان هذا الوالي حاقداً على الكميت، عمد إلى جوارٍ حِسان من وجوه الكمال والأدب، فرواهن هذه القصائد، وأرسل بهن إلى هشام بن عبدالملك، فاستنشدهنّ الشعر، فأنشدنه الهاشميات، فغضب واشتدّ غيظه واستنكر ذلك. وأرسل إلى خالد يأمره بأن يُحضِر الكميت ويقطع لسانه ويده. فلم يشعر الكميت إلاّ والخيل محدقة بداره، فأُخذ إلى السجن، ولكنه استطاع الإفلات منه بأعجوبة، وذلك أنه بعث إلى زوجته واسمها حُبّي وكانت تحمل عاطفة الولاء لبني هاشم، فزارته في سجنه وألبسته ثيابها وتنقّب بناقبها، وخرج حراً طليقاً، وقد أبصره بعض الفتيه لدى خروجه فقال متفرساً: ما ننكر من هذه المرأة إلا يبساً في كتفيها، ولكن لم يفطن إليه، وتابع الكميت سيره منشداً:
خرجت خروج القدح قـدح ابن مقبـلٍ على الرغم من تلك النوابـح والمشلـي
علَـيّ ثيـاب الغـانيـات وتـحتـهـا عزيمة امرئٍ الوالي أشبهت سِلِّة النصّلِ
فعمد الوالي إلى زوجة الكميت ليعاقبها، عند ذلك تدخل قومها من بني أسد قائلين للوالي: ما سبيلك على امرأة حرّة فَدَت بعلها بنفسها، فخشي من سوء العاقبة، وخلّى سبيلها (6).
وكم من مرةٍ تعرّض لهجاء حكام عصره، في سياق مديحه للهاشميين، كما فعل في الميمية المشهورة:
بل هـواي الـذي أجـنُّ وأبـدي لبـنـي هـاشـم فـروع الأنـامِ
الغيوث الليوث إن أمحـل الناس فـمـأوى حـواضــن الأيتـامِ
ساسةٌ لا كمن يَرى رعية النـاس سـواءً ورعـيـة الأنــعــامِ
لا كـعبـد المليـك أو كـوليـدٍ أو سـليمـان بعـدُ أو كـهشـامِ
مَن يمت لا يـمت فقيـراً ومـن يَحيى فلا ذو إلٍّ ولا ذو ذمام (7)
وقد جرّت عليه هذه القصيدة عتاباً ووعيداً من هشام الذي أحضره إليه واستجوبه عن الأبيات السالفة، وهنا اضطُرّ الكميت خوفاً من القتل صبراً وهو لا يجدي العمل الرسالي الذي نذر الكميت نفسه من أجله، لذلك فقد اصطنع شيئاً من المديح الكاذب وبعد أن أجاز له أحد الأئمّة ذلك، قائلاً له: إن التقية لتحل حفظاً للنفس، وصوناً لها من الهلاك في غير موضع مناسب، من ذلك في مثل قوله:
والآن صرتُ إلى أميةَ والأُمور إلى المصايرْ
وقد ظن بعض الباحثين ان الكميت قد خالف نهجه الأول، ولكن الحقيقة أن الكميت قد اشترى حياته ولو إلى حين بهذه الأبيات اليسيرة. وهو الذي قال فيهم من قبل أقذع الهجاء وأمرّه:
فقل لبنـي أمية حيث حلّـوا وإن خفتَ المهنّدَ والقطيعا (8)
أجـاع الله مـن أشبعتمـوه وأشبع مَن بجوركـمُ أُجيعـا
بمرضيّ السياسـة هاشمـي يكون حياً لأمتـه ربيعـا (9)
موقفه مع أئمّة أهل البيت
ولقد كان الكميت متفانياً في حب النبيّ وآله الطاهرين فمن شعره في رسول الله صلّى الله عليه وآله قوله:
بك اجتمعـت أنسابنـا بعد فُـرقةٍ فنحن بنو الإسلام نُـدعى ونُنسَـبُ
حياتك كانـت مجدَنـا وسنـاءنـا وموتك جدعٌ للعرانين مرعبُ (10)
فبُوركتَ مولوداً وبوركـت ناشئـاً وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيبُ
وبورك قبر أنـت فيـه وبُوركـت بـه ولـه أهـل بـذلـك يثـربُ
لقد غُيِّبـوا بـراً وصـدقاً ونائـلاً عشية واراك الصفيح المنصّبُ (11)
وقال مادحاً أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام ومشيراً إلى أثر فقده في الأُمة:
فنعـم طبيـب النـاس مِن أمـر أُمةٍ تـواكلهـا ذو الطـبّ والمـتطبّـبُ
ونـعـم ولـيُّ الأمـر بعـد وليـه ومنتجـع التقـوى ونعـم المـؤدِّبُ
لـه ستـرتا بسـطٍ فكـفٌّ بـهـذه بكفُّ وبالأُخرى العوالـي تُخضَّـبُ
محـاسن مـن دنيـا وديـنٍ كأنّمـا بها حلّقت بالأمس عنقاء مُعِربُ (12)
قد روي أنه دخل على أبي عبدالله الصادق عليه السّلام في أيام التشريق، فقال له الكميت: جُعلت فداك، ألا أنشدك، قال: إنها أيام عظام، قال: إنها فيكم. فقال: هات، وبعث أبو عبدالله إلى بعض أهله فقرب، وأنشد فكثر البكاء حينما وصل إلى هذا البيت:
يصيبُ به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخـراً أسـدى لـه الغـي أوّلُ
فرفع أبو عبدالله عليه السّلام يديه وقال: اللهم اغفر للكميت ما قدّم وأخر، وما أسرّ وأعلن (13).
وقد دخل قبل ذلك على الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السّلام فأنشده:
من لقلـبٍ متيَّمٍ مُستهـامِ غير ما صبوةٍ ولا أحلامِ
فاستغفر له، ودفع إليه ألف دينار وكسوة. فقال الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولكن أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسادكم، فأنا آخذها لبركتها. وأمّا المال فردّه وقبل الثباب، وقد أكرمته فاطمة بنت الحسين حينما عرفته مقدّمةً إليه سويقاً فشربه وهي تقول: هذا شاعرنا أهل البيت.
|